صدرت رواية الكاتب والإعلامي السوري إبراهيم الجبين الجديدة “الخميادو”، عن دار Farabikitap التركية في إسطنبول ضمن حزمة كتب العام الجديد 2022.
ويبدو عمل الجبين الجديد “الخميادو” مغامرة من طراز خاص، سواء في الشكل الفني للسرد أو في المضمون الروائي، مغامرة تنطلق من مفاتيح لغة سرية لعرب الأندلس، في ظروف مشابهة لتلك التي تعيشها بلاد الروائي سوريا، منذ عقد من الزمن حين يُقابل النهوض الحضاري، في عصر الأندلس الذهبي قديماً، وفي انتفاضة السوريين في عصرنا هذا، بأقصى درجات العنف والهمجية، وبعد أن تتنشر الأفكار عبر سيل لا حدود له، تعود اللغة وتنكمش إلى أن تتحوّل إلى رموز وإشارات هاربة من فكرة المنتصر والمهزوم.
وبحسب بيان دار النشر: يشير المؤلف في الصفحة الأولى لـ“الخميادو” إلى أن الرواية تجري أحداثها في المستقبل، بعد سنوات طويلة من ربيع العام 2011، وتتخذ من دمشق مسرحاً رئيسياً لأحداثها، إلى جانب العديد من الأماكن في المنفى، كوبنهاغن ودبي وتونس وعمّان وباريس والقاهرة وإسطنبول والمدن الألمانية، تلعب على خشبة ذلك المسرح شخصيات حقيقية وأخرى يتداخل فيها الخيال مع الواقع وسط موجات فكرية عصفت وتعصف بالمشهد العربي عموماً والسوري بوجه خاص.
طبيب فلسطيني سليط اللسان، وراقصة مصرية منسية من أيام الوحدة المصرية السورية تعيش في حي عشوائي على أطراف دمشق، مغنٍ غجري مسحور بفكرة الانتحار، وفريق من الباحثين في تاريخ العمارة منهمك في البحث عن مكان في دمشق القديمة، مكان كانت تدور فيه الصراعات الوحشية في الماضي السحيق.
متطرفون وحوادث دامية، مسيحيون ومسلمون ويهود ولا دينيون، يكملون العمل الأدبي الذي يمكن أن يوصف بالتركيبي أسوة بالأعمال الفنية البصرية، لا سيما أنه يعتمد الفنون منطلقاً للأفكار، من خلال مهنة الراوي؛ صناعة مجسّمات صغيرة لحارات دمشق العتيقة، وكذلك من قراءة سيرة المكان باستحضار الشغوفين به، مثل المهندس عماد الأرمشي والبروفيسور دورينغ وآن ريسينيه وهشام الرفاعي، تدور حوارات بينهم طيلة زمن الرواية المتداخل بين الماضي والمستقبل عما حلّ بالسوريين، أسئلة متلاحقة عن المقدّمات والنتائج ومتوقفة عند التفاصيل والأبطال وصنّاع اللحظة، فيظهر الشيخ أحمد الصياصنة شيخ الجامع العمري بدرعا في لحظة اقتحام الجامع، ثم بعد إعدام ابنه أسامة بدم بارد، ويأتي من الماضي الأبعد المتشدّد السعودي جهيمان العتيبي قائد المجموعة التي احتلّت المسجد الحرام في مكة، حيث الكعبة التي يسمّيها الجبين في الرواية “المكعّب العقل” ومشهد قطع الرأس الرهيب في ذاكرة طفل، قبل أن يظهر بين شخوص الرواية كل من سلامة كيلة وسميح شقير وعبدالباسط الساروت، والمهندس العبقري باسل الصفدي واليوميات التي جمعته بالراوي في مشروع الفكرة والعمارة والثورة والذي تم إعدامه في سجون الأسد.
ويكشف الجبين في الرواية مزيدا من التفاصيل الدقيقة عن المجموعة النازية التي كانت تعيش في دمشق، وبعد أن كانت شخصية ألويس برونر في روايته “عين الشرق” شخصية مركزية، يضيف الكاتب كثيرا من المعلومات والوثائق عمّا لا يمكن تصوّره من هندسة الوحشية التي تعرّضت لها مدينة دمشق وسوريا كلها لاحقاً.
لا شيء في “الخميادو” يبدو منفصلاً عن لعبة اللغة الحساسة، فكل تركيب إنساني يأتي من معادلات اللغة، وكل تطوّر في الحدث يستند إلى تغيير في الدلالات، حتى في العلاقة ما بين أعمال الجبين السابقة؛ “يوميات يهودي من دمشق” و”عين الشرق” وروايته الجديدة “الخميادو“، تبرز الكتابة عن الذات جسراً يربط تلك الروايات بعضها ببعض، ويصبح البطل الكاتب، جزءاً من الصورة لا مركزها، صحبة أبطال لا يستطيع الحاجز الزماني أو المكاني منعهم من التشارك في حكاية أو في صراع أو في قصة حب تدور في الهامش.
كيف فهم رجال الدولة في هياكل السلطة السورية ما يجري في اللحظات الأولى من ربيع العام 2011؟ وكيف نظروا إلى ما يتوجب عليهم فعله، وكيف تعامل الثائرون من شباب وشابات وسياسيين عانوا لعقود طويلة من البرمجة والحكم المهيمن على كافة أشكال الحياة، مع الثقافة كحامل حضاري لأي حراك مجتمعي؟ عمائر قديمة دارت بين جدرانها أحداث هامة غيّرت وجه سوريا والشرق العربي، تعود لتشهد حوارات حول اللحظة المستجدة،
يزيد من هواجس العمارة غير التقليدية لرواية “الخميادو”، أحداث تجري في الحواشي على هامش السياق العام لها، فيقود الراوي قارئه نحو عوالم متصلة منفصلة في الآن ذاته، ليس فقط في مواقفها الأخلاقية والقيمية من الوجود والحدث الكبير الذي انزلقت إليه سوريا، بل في نظرتها إلى الظواهر والمعتقدات واليوميات الإنسانية الحميمة، وكذلك في المواضع التي اتخذتها لنفسها مما يدور والذي لا يمكن قصّه بمشرط حاد لطبيب جراح كما يقول الجبين.
تتفرع الطرق في “الخميادو” وتعود إلى دمشق والفرات دوماً، حتى حين تقود خطا الراوي نحو ضريح سورين كيركيغارد في شمال القارة الأوروبية، أو حين تعود به في المستقبل إلى ما تحت سطح الأرض في سوق البزورية العريق بدمشق، حيث المدرّج الروماني الدمشق الذي يطلق عليه الراوي اسم “كولسيوم دمشق”، في تيار نهر العنف المتدفق عبر التاريخ.
وإلى جانب الخرائط العمرانية لدمشق الرومانية، ودوائر “رجم الهري” الغامضة في الجولان السوري، والتي لا تستخدمها الروايات العربية عادةً، لا تغيب الدفقات الشعرية في “الخميادو” في ما يبدو خياراً أعلى للراوي، خيار هامس يختفي ويعود، مشتهى وغير متروك جانباً لدى الجبين الذي صدرت له قبل أعوام، ثلاث مجموعات شعرية “البراري” مطلع تسعينيات القرن الماضي، “يعبر اليم” 2003 و “تنفّس هواءها عنّي” 2010 الذي كان آخر الأعمال المنشورة له في دمشق.
يستحضر إبراهيم الجبين في روايته الجديدة رغبة العرب الأندلسيين بالحفاظ على ثقافتهم من خلال الشيفرات التي ضمنوها لغة كانت محظورة، بعد أن بات ممنوعاً عليهم استخدام لغتهم العربية، في ذلك الزمن من قبل الإسبان الذين أقاموا لهم محاكم التفتيش وحملات الإبادة التي تبرّر مرور الراوي على الفيلسوف المعاصر المثير للجدل يوفال نوح هراري وبحثه في الإنسان الـعاقل “سابين” والـ “هومو سابين”، وكذلك تفكير الألمانية حنة أردنت حول الشر وطبيعته وإسقاطه على اللحظة السورية.
وضع الناشر على الغلاف الأخير للرواية مقطعاً مقتبساً من الكتاب، يعكس جانباً من طبيعة النص الروائي يقول فيه الجبين:
“والآن عند عبورك هذه اللحظة، وأنت تقرأ، تكون قد مرّت بك آلاف الكلمات من كتاب “الخميادو” السوري هذا. كتاب اللغة السرية للمهزومين والمنتصرين معاً. كتاب المجرمين والمقتولين. كتاب الملائكة والشياطين. الغابرين والآتين”.