ميدل إيست آي: الغرب غير مستعد لمعالجة الأسباب الأعمق لموجات اللاجئين

بريطانيا ساعدت في خلق موجات اللاجئين والآن تريد إبعادهم

أولئك الذين يقومون برحلات محفوفة بالمخاطر للحصول على اللجوء في أوروبا تم تهجيرهم بسبب الحروب والجفاف ، والتي يتحمل الغرب مسؤوليتها إلى حد كبير

A group including women and children, in a dinghy, react as they approach the southern British coastline as they cross the English Channel from France on 11 September 2020 (AFP)

قضى ما لا يقل عن سبعة وعشرين إنساناً حتفهم غرقاً بينما كانوا يحاولون عبور القنال على متن قارب مطاطي بحثاً عن ملاذ لهم، إلا أن حكايتهم ما لبثت سريعاً أن طغت عليها أنباء الجدل الذي ثار بين بريطانيا وفرنسا.

بينما تسعى الدول الأوروبية جاهدة لإغلاق حدودها أمام اللاجئين، يخوض البلدان حرباً كلامية حول من يتحمل المسؤولية عن وقف العدد المتزايد من القوارب الصغيرة التي تسعى للوصول إلى السواحل البريطانية. طالبت بريطانيا بحق تسيير دوريات في المياه الفرنسية ونشر عناصر من شرطة الحدود داخل الأراضي الفرنسية، وكأنها تقول إن فرنسا ليست كفؤاً للقيام بتلك المهام. في تلك الأثناء وجهت الحكومة الفرنسية اللوم إلى بريطانيا لأنها باتت تشكل نقطة جذب للعمالة غير الشرعية بسبب إخفاقها في تنظيم سوق العمالة لديها.

يجد الزعماء الأوروبيون أنفسهم في أمس الحاجة للحصول على إجابات سريعة. فقد دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى اجتماع طارئ لزعماء المنطقة قبل أسبوع للبحث في أزمة “الهجرة”، إلا أن الدعوة التي كانت قد وجهت إلى وزيرة الداخلية البريطانية بريتي باتيل تم التراجع عنها.

لا يبدو أن أي زعيم أوروبي مستعد لمعالجة الأسباب الأعمق لموجات اللاجئين التي تصل إلى شواطئ أوروبا – أو دور الغرب في التسبب في “أزمة الهجرة”

تبدو الحكومة البريطانية ما بعد بريكسيت أكثر استعداداً للتصرف بشكل أحادي، ومن الإجراءات التي عكفت عليها مؤخراً تكثيف العمل بسياسة “البيئة المعادية” التي تنتهجها تجاه طالبي اللجوء. وتدخل ضمن ذلك خطط إرغام القوارب الصغيرة التي تعبر القنال على أن تعود أدراجها في انتهاك صريح للقانون البحري والدولي، بالإضافة إلى نقل اللاجئين إلى معسكرات اعتقال “أوفشور” في أماكن نائية، ومنها على سبيل المثال جزيرة أسنشن في وسط المحيط الأطلسي. ويجري حالياً إعداد قانون بريطاني الهدف منه إباحة ترحيل اللاجئين ومعاقبة من يمدون لهم يد العون، فيما يعتبر انتهاكاً لالتزامات بريطانيا بموجب معاهدة اللاجئين لعام 1951.

ليس مستغرباً صعود الأحزاب المناهضة للهجرة في مختلف أرجاء أوروبا بينما تشكك الحكومات في شرعية معظم من يصلون إلى المنطقة، وتسمهم بعبارات مثل “مهاجرين غير قانونيين” و “غزاة” و “مهاجرين اقتصاديين”.

لا يقتصر الغرض من مثل هذه المصطلحات نزع الإنسانية عن أولئك الذين يطلبون اللجوء، وإنما يقصد منها أيضاً التعمية على مسؤولية الغرب في إيجاد الظروف التي تدفع بهؤلاء الناس للخروج من ديارهم وتجشم الصعاب بحثاً عن حياة جديدة.

إسقاط القوة

يزيد عدد اللاجئين الذين قضوا نحبهم خلال السنوات الأخيرة أثناء محاولتهم عبور البحر المتوسط في قوارب صغيرة باتجاه أوروبا عن عشرين ألف إنسان بما في ذلك 1300 خلال هذه السنة وحدها حتى الآن. قلة قليلة من هذه الوفيات يتاح للناس رؤية وجوهها – ولا ينسى الناس وجه أيلان كردي، الطفل السوري الذي دفعت المياه بجثته إلى الساحل التركي في عام 2015 بعد أن غرق هو وعدد من أفراد عائلته كانوا يحاولون الوصول إلى أوروبا في قارب صغير.

ومع أن أرقام المهاجرين الذين يحاولون الوصول إلى بريطانيا عبر القنال أصغر من ذلك إلا أن أعدادهم في تزايد – وكذلك أعداد من يلقون حتفهم منهم. يشكل السبعة والعشرون الذين غرقوا قبل أسبوعين أكبر مجموعة تقضي نحبها دفعة واحدة أثناء عبور القنال، وذلك منذ أن بدأت الوكالات في حفظ السجلات قبل سبعة أعوام. يندر أن تذكر وسائل الإعلام أن الاثنين الوحيدين اللذين نجيا قالا، كل على انفراد، إن حرس السواحل البريطانيين والفرنسيين تجاهلوا مكالماتهم الهاتفية التي طلبوا فيها المساعدة أثناء غرق قاربهم. 

إلا أنه لا يوجد من بين الزعماء الأوروبيين من يبدو على استعداد للنظر في الأسباب الأعمق وراء تدفق أمواج اللاجئين الذين يصلون شواطئ أوروبا – أو عن الدور الأوروبي في إحداث “أزمة الهجرة”.

Protesters in London denounce Britain’s border policies on 25 November 2021  (AFP)

يقال إن الذين قضوا غرقاً، وهم سبعة عشر رجلاً وسبع نساء، إحداهن كانت حاملاً، وثلاثة أطفال، كانوا معظمهم من العراق. ينحدر معظم الآخرين الذين يحاولون الوصول إلى أوروبا من إيران وسوريا وأفغانستان واليمن وكذلك من بعض أجزاء شمال أفريقيا.

ليس هذا من باب المصادفة. فلربما لا يوجد إرث من التدخل الغربي – المباشر وغير المباشر – بالحدة التي توجد في الشرق الأوسط الغني بموارده.

يمكن تقفي آثار ذلك الإرث إلى ما يزيد عن قرن مضى من الزمن، عندما كانت بريطانيا وفرنسا وغيرهما من القوى الأوروبية تقوم بتقطيع أوصال المنطقة وتهيمن عليها وتنهب ثرواتها كجزء من المشروع الاستعماري لإثراء نفسهم، وخاصة من خلال التحكم بالنفط.

انتهجوا استراتيجيات فرق تسد من أجل مضاعفة التوترات العرقية وتأخير الضغط المحلي باتجاه بناء الدولة والاستقلال. كما تعمد المستعمرون حرمان دول الشرق الأوسط من المؤسسات التي تحتاجها حتى تتمكن من الحكم بعد الاستقلال.

إلا أن الحقيقة التي لا مناص منها هي أن أوروبا في الواقع لم تغادر المنطقة على الإطلاق، ثم ما لبثت سريعاً أن انضمت إليها الولايات المتحدة، القوة العالمية العظمى الجديدة، من أجل إبقاء المنافسين مثل الاتحاد السوفيات والصين في منأى. وعملوا في سبيل ذلك على رعاية الطغاة الفاسدين، وعلى التدخل لضمان بقاء حلفائهم المقربين في السلطة. وما كان ليخطر ببالهم بتاتاً التخلي عن النفط وتركه لأهل البلاد يتحكمون به.

سياسات متوحشة

بعد سقوط الاتحاد السوفياتي قبل ثلاثة عقود تم تارة أخرى تمزيق الشرق الأوسط بفعل التدخلات الغربية – والتي جاءت هذه المرة متنكرة بلباس “الغوث الإنساني”.

تزعمت الولايات المتحدة أنظمة عقوبات، وضربات جوية قصد منها “الصدم والترويع”، ونفذت العديد من الاجتياحات والاحتلالات التي دمرت دولاً كانت مستقلة عن الهيمنة الغربية مثل العراق وليبيا وسوريا. لربما كان الذي يحافظ على تماسك هذه الدول حكام مستبدون، إلا أنها – وحتى لحظة تقطيع أوصالها – كانت دولاً تقدم أفضل تعليم ورعاية صحية وخدمات اجتماعية في المنطقة.

كان توحش السياسات الغربية، حتى قبل إسقاط حكام تلك الدول، من الأمور التي تجاهر بها شخصيات مثل مادلين أولبرايت، وزيرة الخارجية السابقة في إدارة الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، والتي حينما سئلت في عام 1996 عن العقوبات الاقتصادية التي تسببت حتى ذلك الحين في قتل ما يقرب من نصف مليون طفل عراقي في مسعى فاشل لخلع صدام حسين من الحكم، أجابت: “نعتقد أنه ثمن مبرر.”

سارعت مجموعات مثل القاعدة وما يسمى الدولة الإسلامية إلى شغل الفراغ الذي نجم عن قيام الغرب بتدمير البنى التحتية الاقتصادية والاجتماعية التي كانت مرتبطة بتلك الحكومات السلطوية. لقد جلبت تلك المجموعات احتلالاً من نوع خاص بها، وعملت على تفتيت واضطهاد وإضعاف تلك المجتمعات، وعلى توفير مسوغات إضافية للتدخل من قبل الغرب إما بشكل مباشر أو عن طريق وكلاء محليين، مثل المملكة العربية السعودية.

أما الدول التي تمكنت حتى الآن من الصمود في وجه هذه السياسة الغربية القائمة على “التدمير والحرق”، أو تمكنت مثل أفغانستان وإيران من التخلص من القوى التي تحتلها فما زالت تتعرض لإجراءات مقاطعة عقابية شديدة تشل حركتها، تفرضها عليها الولايات المتحدة وأوروبا. بل يلاحظ أن أفغانستان، التي خرجت من عقدين من الاحتلال الذي تزعمته الولايات المتحدة، غدت يوم انتهاء ذلك الاحتلال في حال أسوأ بكثير مقارنة بما كانت عليه يوم تعرضت للغزو.

في غير ذلك من الأماكن، ساعدت بريطانيا وغيرها من الدول المملكة العربية السعودية في إطالة أمد حملات القصف الجوي المبيدة التي تشنها على اليمن والحصار الذي تفرضه عليه. تشير التقارير الأخيرة إلى أن ما يقرب من ثلاثمائة طفل يمني يموتون كل يوم نتيجة لذلك. ولكن على الرغم من عقود من الحروب الاقتصادية التي تشنها على تلك البلدان في منطقة الشرق الأوسط، مازال لدى الدول الغربية الجرأة لأن تقف منددة بأولئك الذين يلوذون بالفرار من مجتمعاتهم التي تتعرض للانهيار مطلقة عليهم عبارة “مهاجرون اقتصاديون”.

أزمة المناخ

كان من تداعيات التدخل الأجنبي أنه حول الملايين من سكان المنطقة إلى لاجئين أجبروا على الخروج من أوطانهم بسبب الفوضى العارمة الناجمة عن الصراعات العرقية المتصاعدة، وعن استمرار القتال، وعن الدمار الذي لحق بالبنى التحتية، وعن تلوث الأرض بالذخيرة ومخلفات الحروب. واليوم يقبع معظم هؤلاء في خيام نصبت لهم في معسكرات داخل المنطقة، يعيشون على الصدقات التي تردهم من هنا ومن هناك، ولا يكادون يجدون سواها. وهدف الغرب هو إعادة دمجهم محلياً: أي توطين هؤلاء اللاجئين في مواقع قريبة من تلك التي كانوا يعيشون فيها من قبل.

إلا أن حالة انعدام الاستقرار والقلاقل التي نجمت عن الإجراءات الغربية في مختلف أرجاء الشرق الأوسط تتفاقم تحت وطأة ضربة ثانية لا مفر من أن يتحمل الغرب نصيب الأسد من المسؤولية عنها.

The remains of a submerged village abandoned decades ago, seen on 4 November 2021, resurfaced after a large drop in the water level of Iraq’s Dohuk Dam due to drought (AFP)

لم تعد المجتمعات التي دمرتها ومزقتها الحروب والعقوبات الاقتصادية التي يشعل نيرانها الغرب في وضع يمكنها من تحمل الارتفاع المستمر في درجات الحرارة وفترات الجفاف التي تزداد طولاً عاماً بعد عام، والتي يعاني منها الشرق الأوسط بشكل خاص في خضم تكرس الأزمة المناخية. فالنقص الحاد في المياه والإخفاق المتكرر في المحاصيل – وتفاقم آثار ذلك بسبب ضعف الحكومات المحلية التي لا تملك المساعدة – تدفع الناس نحو الهجرة من أراضيها بحثاً عن حياة أفضل في أماكن أخرى.

يقدر عدد الأفغان الذين أجبروا على الخروج من ديارهم خلال السنوات الأخيرة بما يقرب من 1.2 ملون نسمة، ألجئوا إلى ذلك بسبب مزيج من فترات الجفاف والفيضان. وفي شهر أغسطس (آب) حذرت منظمات الإغاثة من أن 12 مليون سوري وعراقي لم يعد بمقدورهم الحصول على الماء والطعام والكهرباء. يقول كارستن هانسن، المدير الإقليمي لمجلس شؤون اللاجئين في النرويج: “بات وشيكاً انهيار موارد الماء والطعام لملايين السوريين والعراقيين.”

وطبقاً لبحث أجري مؤخراً فإن إيران تعاني من مشاكل غير مسبوقة ذات صلة بالمناخ، مثل جفاف البحيرات والأنهار وهبوب العواصف الرملية وارتفاع قياسي في درجات الحرارة وتكرر حالات الجفاف والفيضان. وفي شهر أكتوبر (تشرين الأول) لاحظ اتحاد جمعيات الصليب والهلال الأحمر أن التغير المناخي يعيث فساداً باليمن أيضاً، بما يجلبه من فيضانات شديدة وما ينجم عن ذلك من زيادة مخاطر الأمراض المحمولة مائياً.

لا يمكن للدول الغربية التنصل من المسؤولية عن ذلك، فنفس تلك البلدان التي نهبت الشرق الأوسط وسطت على مقدراته على مدى القرن الماضي هي نفسها التي استغلت الرخاء الناجم عن اكتشاف الوقود الحفري لكي تكثف وتيرة التطوير الصناعي فيها ولكي تحدث مجتمعاتها. تصدرت الولايات المتحدة وأستراليا دول العالم في عام 2019 في معدلات استهلاك الفرد فيها للوقود الحفري تتبعها في ذلك ألمانيا وبريطانيا. كما احتلت الصين مرتبة عالية في ذلك، وإن كان معظم استهلاكها للنفط يتم في قطاعات إنتاج البضائع الرخيصة التي تتوجه نحو الأسواق الغربية.

يتعرض كوكبنا للتسخين بسبب أنماط الحياة الغربية المتعطشة للنفط. والآن، يحرم أول ضحايا الأزمة المناخية – سكان منطقة الشرق الأوسط التي وفرت النفط – من الوصول إلى أوروبا، تحول بينهم وبين ذلك نفس الدول التي حولت بلدانهم وبشكل متزايد إلى أماكن غير قابلة للمعيشة.

حدود غير قابلة للاختراق

تستعد أوروبا لإحاطة نفسها بحدود غير قابلة للاختراق من قبل ضحايا تدخلاتها الاستعمارية والحروب التي شنتها والأزمة المناخية التي تسببت بها والاقتصاديات الاستهلاكية التي ولدتها. لا ينحصر قلق بلد مثل بريطانيا في التعامل مع عشرات الآلاف من طلبات اللجوء التي تتلقاها كل عام من أولئك الذي جازفوا بكل شيء من أجل حياة جديدة.

بل ترمق عيونهم المستقبل بينما تئن مخيمات اللاجئين تحت وطأة الضغط الشديد الذي تتعرض له في مختلف أرجاء الشرق الأوسط في ظل القدرات المحدودة للبلدان المضيفة – تركيا والأردن ولبنان والعراق، التي بالكاد تتمكن من الاستمرار بتحمل تلك الأعباء.

تعلم الدول الغربية أن أثار التغيرات المناخية لن تزداد إلا سوءاً، حتى وإن كانوا يدعون إنهم يتصدون للأزمة من خلال صفقة جديدة خضراء. يعلمون كذلك أن الملايين، بدلاً من الآلاف الحالية، سوف يطرقون أبواب أوروبا خلال العقود القادمة.

بدلاً من مساعدة أولئك الذين يسعون من أجل الحصول على اللجوء في الغرب، قد يثبت لهم أن معاهدة اللاجئين لعام 1951 قد تشكل أكبر عقبة تقف في طريقهم. فهي تستثني من ينزحون بسبب التغير المناخي، وليست الدول الغربية في عجلة من أمرها لتوسيع إطارها، فهي بدلاً من ذلك تشكل بالنسبة لهم ما يشبه بوليصة التأمين.

مباشرة بعد غرق سبعة وعشرين لاجئاً الشهر الماضي، خاطبت بريتي باتيل زملاءها المشرعين في مجلس النواب قائلة إنه حان الوقت “لتوجيه رسالة واضحة بأن عبور القنال بهذه الطريقة القاتلة، في قارب صغير، ليس السبيل للقدوم إلى بلدنا.”

ولكن الحقيقة هي أنه إذا تمكنت الحكومة البريطانية وحكومات غيرها من الدول الأوروبية من فرض ما تريد فلن يبقى ثمة طريق مشروع يسلكه أولئك القادمون من الشرق الأوسط والذين ما دمر حياتهم وأوطانهم سوى الغرب.


عن  موقع “ميدل إيست آي” البريطاني ، للاطلاع على الموضوع الأصلي اضغط هنا

يقول محدّثي :
لمّا تخرج الكلمة للعلن …فلا سلطة لك عليها …
كل يرميها بسهم عينه ..

 

ماهر حمصي

إبداع بلا رتوش
إشترك في القائمة البريدية