تعالج السلسلة الوثائقية «كيف تصبح ديكتاتورا؟» واحدة من قضايا السياسة شديدة الأهمية في تاريخ البشرية المعاصر (والسحيق) بالحديث عن وجود كتاب للخدع، يلجأ الطغاة إليه للوصول إلى السلطة، والحفاظ عليها مهما كلّف الأمر، لكن الحبكة الظريفة في هذا الموضوع هي في اقتراحها للمشاهد المهتم، الطرق اللازم اتباعها ليصبح هو أيضا طاغية. غير أن صعودك إلى تلك المرتبة، إذا كنت من الطامحين إلى رتبة الديكتاتور، لا يتوقف، في اعتقادي، على مواهبك حسب.
هناك، كما يقول المصطلح الماركسيّ، «ظروف موضوعية» لصعود المستبد، تتمثل عادة في أزمة سياسية كبيرة، غير أنه إذا وضع الديكتاتور قدميه على طريق السلطة، عبر صعود أيديولوجي كبير منظم لدعاية حزب، كما حصل في ألمانيا النازية وروسيا البلشفية، أو كنت في موقع عسكري أو أمني، كأن تكون وزير دفاع أو قائدا للمخابرات (أو تجمع الحسنيين!) أو في منصب تستطيع استخدامه لمراكمة السلطات بين يديك، فجزء من الخدع المقترحة سيساهم بالتأكيد في صنع تلك «الظروف الموضوعية» فحريق الرايخستاغ حين كان هتلر مستشارا ساعد في موافقة النظام إعطائه سلطات مطلقة. ونكبة فلسطين، ساهمت في وصول عدد من الجنرالات العرب الذين ساهموا في هزيمة جيوشهم إلى مقاليد السلطة.
كلما كانت تلك الأزمات أكبر كانت الظروف أنسب لصعود الطاغية، حيث يصبح عندها ممكنا، لأشخاص لديهم تلك الموهبة في السيطرة على الجموع أو الجيوش، أن يركبوا موجة المشاعر التي تخلقها آلام شعوبهم، فيطرح الواحد نفسه على أنه الشخص الذي يستطيع إخراج الشعب من الضياع، وقيادته من الفقر للغنى، ومن الذل والضعف إلى السيادة والقوة (لينتهي الأمر، في أغلب الأحيان، إلى ضياع أكثر وفقر مدقع وخراب أعم وارتهان لقوى خارجية عديدة). يتشابه أغلب الطغاة في امتلاكهم بضع درجات من اضطراب جنون العظمة. يعتقد الديكتاتور أنه شخص مميز، استثنائي، قادر على قيادة جمهور، حزب، شعب، وغالبا ما يدفع ذلك الإيمان الجنوني أكبر الطغاة إلى الاعتقاد بأن واحدهم منذور لإنقاذ العالم، وليس إنقاذ بلاده حسب!
ظهور الزعيم يحول الشتاء إلى ربيع
تمتد هذه الظاهرة، الأشبه بتأسيس دين جديد (حتى لو كانت الأيديولوجية علمانية) وتتسع، وفي هذه المرحلة يمتزج المرض النفسي فعلا بالخداع، وتمتزج رغبات الأتباع الخلص بالإيمان بقائدهم، برغبات جماهير حائرة تحتاج إلى أساطير تصدقها، وبذلك تلتقي آليتا الخداع والانخداع، حيث يتكفل جنون الطاغية وإتقان مستشاري البروباغاندا لديه بنسج الأسطورة وتصعيدها، ويتكفل الجمهور التائق لخلاص سحري بتكملة العملية.
تكاد الأمثلة على هذه الظاهرة لا تصدق في فحشها، فحسب تاريخ كوريا الشمالية فإنه عند ولادة قائد حزب العمال الشيوعي الكوري كيم جونغ ايل، لمع نجم جديد في السماء (كما حصل عند ولادة المسيح) وظهر قوس قزح مزدوج وتحول الشتاء إلى ربيع. جعلت الدعاية البعثية في سوريا حافظ الأسد شبه إله آثاره موجودة في كل شيء (رغم أنه تعمد الابتعاد والارتفاع عن الناس وأعوانه الحكوميين والأمنيين والاعتكاف عنهم) حيث جعل الطلاب يرددون في المدارس والكليات العسكرية وشبه العسكرية إنه «قائدنا إلى الأبد». هناك أساطير مشابهة حول زعماء عرب ظهرت وجوههم على القمر، وصدام حسين، الذي اختاره الله لحكم العراق، وديكتاتور هاييتي فرانسوا دوفالييه الذي أعلن، فعلا، أنه كائن أبدي.
إحدى الحيل المهمة في بداية مسيرة الطغاة هي العمل على بث رسائل تهييج للجمهور، بدعاية تحريض تنتشر بين الغاضبين، وتستهدف قسما من المجتمع، باعتباره «عدوا داخليا» وهي الخدعة الكبيرة التي ستبيعها للجمهور بأنك رجلهم الذي سيخلصهم من ذلك العدو الخطير.
إحدى الحيل المهمة في بداية مسيرة الطغاة هي العمل على بث رسائل تهييج للجمهور، بدعاية تحريض تنتشر بين الغاضبين، وتستهدف قسما من المجتمع، باعتباره «عدوا داخليا» وهي الخدعة الكبيرة التي ستبيعها للجمهور بأنك رجلهم الذي سيخلصهم من ذلك العدو الخطير، وأنك شخص قادم من صفوفهم لتقضي على أولئك الأعداء المسؤولين عن بؤسك وفقرك وإذلالك. يواجه الديكتاتور الصاعد، مع ذلك، منافسة، فبيع سياسات التحريض ضد «العدو الداخلي» (المتحالف عادة مع «العدو الخارجي») سوق يكون فيه باعة سياسيون كثر، ولا يمكن أن نستهين، والحالة هذه، بخدع كبار الطغاة، ومنها إقناع الجمهور بأنه هو الشخص الأنسب بين منافسيه. إحدى الطرق الطريفة التي استخدمها ستالين كانت توزيع صورة له مع لينين بعد التلاعب بحجمه وبالمسافة التي تقربه منه، ثم بتنطعه لتنظيم الجنازة وتحنيط الجثمان وزيارة الجمهور، وبذلك كان يدعم موقعه ضمن الجمهور والحزب. مهم في رحلة التسويق تلك استخدام صفة «رجل الشعب» وإشارات الطغاة لأصولهم الشعبية المتواضعة. الديكتاتور شخص عصامي صنع نفسه بنفسه.
أين يذهب رفاق الزعيم؟
كان بينيتو موسوليني يصف نفسه بـ»رجل الشعب» مشيرا إلى تواضع أصله كونه ابن حداد من بلدة صغيرة، وجاب عيدي أمين بسيارة «جيب» عسكرية مفتوحة أرجاء أوغندا، كما أظهر مهاراته في عزف الأكورديون في المناسبات العامة، وكان ربط معمر القذافي نفسه بأصوله البدوية أحد أهم سردياته التي تابعها بإقامته في خيمة عندما يسافر للخارج، وتبرع حافظ الأسد بقطعة الأرض الصغيرة التي كانت عائلته تمتلكها.
النقلة التالية المهمة في كتاب «خدع الطغاة» هو إعطاء «براند» للحركة التي يقوم بها، فمثل أي بضاعة في السوق، سيحتاج تاجر الديكتاتورية إلى استراتيجية تسويق رائعة. كان هتلر رجل إعلان بالفطرة. يعرف قوة الصورة والرمز، وباعتماد آلته الدعائية رمز الصليب المعقوف في دائرة بيضاء على راية حمراء، فقد خلقت رمزا ذا قوة هائلة. تنتج هذه الرموز والأزياء عناصر التوحد والجاهزية للتضحية والامتثال للقائد لتحقيق هدف عظيم، ويمكننا، من تحليل الظاهرة النازية، القول إن هناك تناسبا طرديا بين الطبيعة الديكتاتورية للأنظمة واعتماد الأزياء الموحدة، وطغيان الرموز، والكثافة الهائلة لصور القائد.
يمثل الوصول إلى الحكم نقطة كبيرة في السيرة المهنية للديكتاتور لكن هذه النقلة يتبعها، بشكل آلي، العمل على إقصاء منافسيه وجمع كل السلطات في يديه وتأسيس أركان هيمنته، بإدخال البلاد في مرحلة إرهاب ورعب وتصفية، ليس للخصوم حسب، بل كذلك للحلفاء الأقوياء. حصل هذا في الصين مع جنرالات المسيرة الكبرى، الذين رافقوا ماو حيث ماتوا جميعهم خلال سنوات، وهو ما حصل مع القادة الذين رافقوا فيديل كاسترو خلال الثورة الكوبية، وقادة الحزب الشيوعي الروسي مع ستالين، وزج حافظ الأسد برفاقه القدامى في الحزب، كصلاح جديد ونور الدين الأتاسي، في السجن، واغتال أحد مؤسسيه، صلاح البيطار، ورفاقه في «اللجنة العسكرية الثورية» محمد عمران وسليم حاطوم وعبد الكريم الجندي.
بعد موجة الرعب يستخدم الديكتاتور قوى الرصد والمراقبة والتجسس من عناصر مخابراته، لتوسيع دائرة الرعب، وشبكة كبرى من المخبرين لجعل الناس يعتقدون أنهم مراقبون بشكل دائم، وعادة ما تمتد شبكة المخبرين والمراقبة والخطف والاغتيال إلى خارج البلاد، والرسالة هي: حتى الخارج ليس آمنا لمن يعارضون القائد، وهو أمر لا تزال أنظمة تستخدمه، وبطريقة شبه علنية، كما هو حال عملاء المخابرات الروسية ضد المعارضين في الخارج.
توجد في فهرس كتاب الخدع بنود كثيرة، منها استخدام المثقفين (ورجال الدين: الطبعة القديمة منهم) وكان ستالين أحد أكبر الطغاة الذين نجحوا في تجنيد الأنتلجنسيا العالمية في صفوفه، وكانت إحدى علامات نجاحه الشهيرة دعوته لمثقفين كبار مثل جان بول سارتر وبرنارد شو وإتش. جي. ويلز للتغطية على المجاعة الرهيبة في أوكرانيا التي سببتها سياساته. لكن أكبر التشابهات وأعظمها، في اعتقادي، أن أولئك يقودون بلدانهم، والبلدان المجاورة، إلى حروب وكوارث مرعبة، وأن مغامرة أغلبهم تنتهي بقتلهم.