من ينقذني يوم القيامة .. من حق الفقير والجائع ..والمريض الضائع .. والمظلوم المقهور..
عمر بن عبد العزيز
لا يمكن الوقوف عند أثر من آثار الخليفة الأموي ” عمر بن عبد العزيز” كمثل هذا النقد الفضي الذي ضربه بدمشق سنة 100 هجرية ، دون التوقف عند مآثر هذا الرجل في السياسة والحكم والنبوغ والذي مثل ظاهرة فريدة في التاريخ العربي الإسلامي.
ولد ” عمر بن عبد العزيز” بحلوان في مصر سنة 61 هجرية , حيث كان والده ” عبد العزيز بن مروان” والياً عليها، وأمه “ليلى” ابنة عاصم حفيدة “عمر بن الخطاب” رضي الله عنه، سعى والده لتنشئته عالماً فقيهاً، فأرسله إلى المدينة المنورة، وعهد به إلى كبير علمائها “صالح بن كيسان” ليؤدبه، حتى حفظ القرآن والحديث وتفقه فيهما، وبدت علامات النبوغ عليه وهو لا يزال حدثاً صغيراً.
كانت أولى تجارب “عمر” في السياسة والحكم حينما اختاره عمه “عبد الملك بن مروان”، والياً على إمارة صغيرة في الشام، هي “خناصرة” من أعمال “حلب” ، وبقي والياً عليها حتى وفاة عمه بعد أن طلبه هو بالذات قبيل رحيله وزوجه ابنة عمه “فاطمة”.
وبعد توليه ابنه “الوليد بن عبد الملك” خليفة استمر بالتعاون مع ابن عمه و زوج شقيقته”عمر بن عبد العزيز” حيث أقام بدمشق مدة من الزمن فعرف”الوليد” “لعمر” صلاحه وكفايته فولاه المدينة المنورة عام 86 للهجرة، حيث بقي فيها سبع سنين، كان مثالاً للورع والتقوى والزهد في مباهج الحياة على سنة جد أمه الفاروق العادل “عمر بن الخطاب” والذي تشرب نوادره ومناقبه من أمه وما يحفظه معاصروه من علماء الفقه الحديث والأتباع، وكان موضع التقدير والرضا، إلا من الشعراء المداحين الذين صرفهم عنه لعلمه بأن همهم ابتزاز الأموال من الأمراء والولاة والخلفاء، وبذات الوقت كان شديد التذمر من مساوئ الحكم الأموي إلى أن عزله “الوليد” لأنه لمس فيه شخصية قادرة على تحديه وخصوصاً عندما قرر أن يعزل أخاه “سليمان بن عبد الملك” من ولاية العهد وأن يبايع ابنه الصغير المترف والمدلل، وأطاعه كثير من أشراف البيت الأموي رغبة أو رهبة، ولكن عمر أبى أن أن يخلع رجلاً في عنقه بيعة، ولم يخشى في الحق لومة لائم ولا سخط خليفة، ولا خشية عذاب أو موت، حين قال للخليفة : “في أعناقنا بيعة” .
وعندما توفي “الوليد” تولى شقيقه “سليمان” الخلافة، فقرب عمر منه واستشاره في أكثر الأمور خطورة، فوجده ناصحاً تقياً ، وعهد إليه بولاية العهد قبيل وفاته بقليل دون علمه بصك ممهور بخاتم الخليفة استحصله منه العالم الجليل “رجاء بن حيوة” وكتم الأمر عنه وعن أشقاءه لحين قضاء الخليفة نحبه المحتوم ففاجئ هذا العالم الفقيه,البيت الاموي بإعلانه تولية “عمر بن عبد العزيز ” نزولاً عند رغبة الخليفة الراحل “سليمان”.
إلا أن عمر أصر على صعود المنبر في مسجد “دابق” وخلع نفسه قائلاً في خطبته الشهيرة “أما بعد .. فقد ابتليت بهذا الأمر على غير رأي مني فيه، وعلى غير مشورة المسلمين .. وإني أخلع بيعة من بايعني، فاختاروا لأنفسكم..”
ولكن محاولتة تخفق عندما تتحول الجموع هياجاً مطالبة ببقائه .. وتتحقق نبوءة الجد الأول “عمر بن الخطاب” في رؤياه حينما نهض من نومه ليلة متعجباً متسائلاً؟! وهو يقول : ” من هذا الأشج من بني أمية ومن ولد عمر، يسمى عمـر، ويسير بسيرة عمـر، ويملاً الأرض عـدلاً ..” ؟
وكان “عمر بن عبد العزيز” قد رمحه جوادٌ في حظيرة الخيل بحلوان، فشج رأسه، وما كان والده “عبد العزيز” ليحزن على ما أصابه، إنما قال لأمه أبشري يا أم عاصم: “إن يكن أشج بني أمية فإنه إذا لسعيد”.
عهد عمر بن عبد العزيز ( 98 ) _ (101) هـ
يجمع المؤرخون على اختفاء الفقر في عهده، وترفع الناس عن قبول الصدقات بعد أن عم عدله وملأ شعورهم بالقناعة والكرامة، وأدخل كل ما يملك في خزانة بيت المال وأوقف العطايا الضخمة للأسرة الأموية وأمر بضمها إلى بيت المال، بما فيها حلي زوجته “فاطمة”, وطُلب إليه مرة الموافقة على صرف مبلغ كبير من المال لكسوة الكعبة، فكان جوابه : ” إني أرى أن أجعل هذا المال في أكباد جائعة فإنها أولى به من الكعبة”.
كتب إليه والي خراسان مرة يستأذنه في أن يرخص له باستخدام القوة والعنف مع أهلها قائلاً في رسالته للخليفة :”إنهم لا يصلحهم إلا السيف والسوط…”فكان رد “عمر” :”كذبت .. بل يصلحهم العدل والحق..”.
كانت إصلاحاته السياسية كبيرة الأثر في هدوء النفوس الثائرة على الحكم الأموي ، فأقام حوارً سياسياً وفقهياً مع الجماعات المعارضة وساهم في تطوير الادارة وإبعاد بقايا تلامذة الحجاج وأبناء مدرسته عن الإدارة، ونظم حملة ملؤها الحماسة الدينية لنشر الدعوة الاسلامية وكان رأيه أنها الوسيلة الوحيدة لمنع تصدع الدولة بجمع الناس حول العقيدة الاسلامية وصهرهم في المجتمع الإسلامي دون تمييز، ونتيجة لهذه السياسة ازداد إقبال الناس على دين الاسلام ، ونقص إيراد بيت المال نقصاً ملحوظا,ً فكتب إليه عاملوه على الأقاليم يشكون إليه ذلك, فأطلق رسائله المشهورة التي يقول فيها:” أما بعد.. فإن الله بعث محمداً داعياً ولم يبعثه .. جابياً ..”.
ما أكثر ما كان يردد .. ” من ينقذني يوم القيامة .. من حق الفقير والجائع والمريض الضائع .. والمظلوم المقهور .. واليتيم والأرملة والأسير ..”.
هكذا حقق “عمر بن عبد العزيز ” بعضاً من أفكاره المثالية إلا أنه لم يكن ممكناً أن يستمر في تحقيق كل مساعيه الخيرة بالبناء الانساني والفكري الجديد مهتدياً بسيرة الخلفاء الراشدين وعلى رأسهم ” عمر بن الخطاب” ، فقد كاد يفرغ بيت المال، كما أن السماح للمزارعين الذين يدخلون الإسلام كان سبباً لبوار الأرض الزراعية وخراب الريف والزراعة بانتقالهم إلى المدن والحواضر، وقضايا أخرى شائكة لم يجد لها حلاً خلال مدة حكمه القصيرة، لذلك لم يكن من المستغرب أن تعود الدولة إلى سياستها السابقة بعد وفاته عام (101 هـ) فكانت ولايته سنتين وخمسة أشهر, ويذكر “أبو الفرج الاصبهاني” في كتابه الأغاني- الجزء الثامن- أن وفاته كانت مؤامرة مدبرة من الأسرة الأموية، إذ دسوا له السم في الطعام، وكذلك أكد هذه الرواية مفصلة العالم المدقق والفقيه النبيه “جلال الدين السيوطي” في مؤلفه “تاريخ الخلفاء” .
وإذ شعر “عمر بن عبد العزيز” بقرب أجله وكان حينها قد بلغ التاسعة والثلاثين، خطب في مسجد “خناصر” آخر خطبة له قال فيها:” إنا لله شرائع وسنن إن أعش أعلمكموها وأحملكم عليها وإن مت فما أنا على صحبتكم بحريص ..” .
وفعلاً اشترى أرضاً من ماله الخاص في “دير شرقي” – ضاحية في معرة النعمان – عندما عاجلته منيته وأحس بدنو أجله لتكون هذه الرقعة الصغيرة مثواه الأخير ولا زال رحمه الله راقداً فيها إلى يومنا هذا..