في العاشر من حزيران من العام 1949، وبعد يوم مرهق من المفاوضات في قصر الإليزيه مع الرئيس الفرنسي “فنسان أوريول”، وافق خلالها على تزويد الجيش السوري بما يحتاجه من أسلحة وعتاد بعد الحرب العربية الفاشلة وقيام الدولة العبرية. وبهذا الاجتماع يحقق الوفد السوري، خرقاً غير مسبوق للقرار الدولي الذي يحظر توريد السلاح إلى الجيش السوري.
الوفد كان مكوناً من ثلاثة أعضاء، هم : الدكتور “عدنان الأتاسي” نجل الرئيس الأسبق هاشم الأتاسي، وسفير سوريا في باريس، “ادمون حمصي” سفير سوريا في لندن، وبرئاسة “نذير فنصة” عديل “حسني الزعيم” وسكرتيره الخاص بعد الانقلاب الذي استولى به الأخير على رئاسة الجمهورية ونصب نفسه ماريشالا للجيش. ولن أتوقف هنا بالحديث عن هذه المفاوضات التي تكللت بالنجاح، بل سأروي للمرة الأولى ما حصل من أحداث على هامش هذه الزيارة، كان لها أكبر الأثر على تطورات الأحداث اللاحقة في سورية، كما رواها لي عمي نذير فنصة ودونتها عنه مباشرة:
يقول “نذير”: عدت إلى الفندق الذي حللنا فيه، وأذكُر بأنني كنت في غاية الإرهاق، وبحاجة ماسة للنوم بينما تركني الصديقان الأتاسي وحمصي لقضاء بقية المساء لمراجعة بعض الأوراق التي تم توقيعها لعرضها على المشير الزعيم. وما إن وصلت الى قاعة الاستقبال حتى اعلمني الموظف المسؤول بأن هناك شخصاً ينتظرني منذ مدة لم يحددها، وأشار بيده إلى حيث شاهدت من بعيد رجلاً عجوزاً متكأ على عكازه، لاتوحي قسماته بأنه فرنسي.
تقدمت منه وسألته أنا من تنتظره فهل من خدمة أؤديها إليك؟
أجاب بوقار رجل تجاوز السبعين قائلاً: اسمي فلان وأنا أتتبع ما يجري في سورية لأن تطورات الأحداث فيها تهمني، وأود أن ألتقيك في مكان مناسب تحلُ فيه بضيافتي، نتحدث خلاله بحرية…. ويتابع نذير: “قاطعته فوراً واعتذرت قائلاً: لا وقت لدي لتلبية مثل هذه الدعوات أو هكذا لقاءات فأنا في مهمة رسمية” …وكنت على وشك أن أغادر إلا أن اصراره أحرجني، وأخرج بطاقته” كارت الفيزيت” وقدمها لي راجياً أن أعيد النظر في برنامج لقاءاتي في باريس، وأن أسعى الى الإتصال به، حتى لو أتيح لذلك أقصر مدة متاحة. أكدت اعتذاري منه بإصرار بعد أن وضعت بطاقته في جيبي وانصرفت الى النوم.
في صباح اليوم التالي، وعلى وجبة الإفطار في الفندق كنت مع عدنان الأتاسي وادمون حمصي نتناول إفطارنا على عجل، وإذ بي أروي ما حصل لي مساء أمس وحال هذا الرجل العجوز وهو يلح على لقائي به، وكيف تخلصت منه، لأنني كنت مرهقاً وبحاجة ماسة للنوم مبكراً، فانتبه السفير إدمون حمصي، وبنباهته سألني: وهل قال لك ما اسمه؟
قلت: نعم، وأعطاني بطاقته وهممت بإخراجها من جيب سترتي ووضعتها أمامه على الطاولة، وما أن وقعت عيناه على اسم صاحبها حتى قفز من مكانه، وانفجر في وجهي شاتماً قائلاً: أأمثل هذا الشخص تتخلص منه يا أغبى الأغبياء وأجهل الجهلاء؟ وأردف بعصبية: “قمْ فوراً واتصل به بعد أن تعتذر منه، وحدد موعداً للقائه بأسرع وقت قبل مغادرتك باريس”… !! ذهلت وذهل عدنان من انتفاضة إدمون المفاجئة، وتابع بحماس : “أنتم لا تعلمون من هو صاحب هذه البطاقة إنه “وليم نوبل” حفيد شقيق “الفريد نوبل” مخترع الديناميت الشهير وصاحب الجائزة المعروفة باسمه وهو الوريث لجده “الفريد نوبل”، وهو أيضاً المالك الحصري لنصف قطاع المال والبنوك والاعمال الكبرى في أوربا، إنك يا غبي طردت أحد أثرى أثرياء العالم.
ويقول “نذير” تبادلنا أنا و”عدنان الأتاسي” النظرات، فمن المؤكد بأنني لم أسمع به في حين عرفه فوراً “ادمون حمصي” لأنه سليل عائلة عريقة، أباً عن جد، في عالم البنوك وإدارة المعاملات المالية في سورية ولبنان، إنه باختصار رجل (بانكيه) متمرس.
وعندما هممت بالاتصال بوليم نوبل لأعتذر منه، كان بغاية اللطف وهو يتقبل اعتذاري، و”ادمون حمصي” يقف بمحاذاتي فوق سماعة الهاتف وهو يشير بقسمات وجهه بما يتوجب علي أن أقول وما لا أقوله، وأنا أحادثه.
وحدد لي وليم نوبل موعداً للقائه في مطعم “مكسيم” الشهير، الذي يقدم أغلى وأنفس وجبات الاطعمة الشهية وأندرها.
وما أن وطأت قدماي السجاد الفاخر في هذا المطعم عند الموعد المضروب بدقة، حتى فوجئت بأن المطعم قد تم حجزه كاملاً على شرف قدومي، وقد دعا إليه كل الشخصيات السياسية والاقتصادية، وبعض أثرياء باريس، اذهلتني هذه الفخامة التي لمستها، و حرص المسيو “نوبل” على المبالغة في إظهارها.
وبعد العشاء وتبادل الأنخاب، جلسنا على انفراد نتحدث فيما طلبني من أجله، وأنا أصغي إليه ببالغ الاهتمام دون أن أقاطعه.
أدوار غامضة لبنوك مغفلة مولت الانقلابات غير أنها بقيت في ظلال الأحداث دون أن ينتبه إليها أحد.
ما قاله حينها في مطعم مكسيم أن جَدَهُ هو شقيق الفريد نوبل الذي التقى في نهايات القرن التاسع عشر بالسلطان العثماني عبد الحميد الثاني في إستانبول، وحاز منه على تصريح بالتنقيب عن النفط في سورية، (في عام 1899 أصدر السلطان عبد الحميد فرماناً حصر فيه حقوق البحث والتنقيب عن النفط بالذات السلطانية) وهو يرجوني بأن أقدمه إلى الرئيس الجديد “حسني الزعيم” كي يقوم بإعادة تفعيل هذا الصك في حقوق البحث عن البترول والكشف عن آبار نفطية جديدة في سورية،
ويتابع “نذيرفنصة” قائلا، بأنه حين عودته إلى دمشق سريعاً، أعلم عديله “حسني الزعيم” بقصة الثري السويدي، واهتم الزعيم بمتابعة هذه القضية بصورة شخصية، بحيث اتصلت الرئاسة السورية بنوبل، ودعته إلى دمشق والتقاه الزعيم مطولاً، ووافق على إعادة تفعيل الحقوق القانونية لصك السلطان عبد الحميد، للحفيد الثري “وليم نوبل”، و سمح له بالتنقيب عن النفط، وأكرمه بمنحه وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة.
يقول “نذير”: إن هذا المشروع لم تتح له فرصة التحقق على أرض الواقع، لأن اللواء “سامي الحناوي” رجل الانقلاب الثاني قطع الطريق على الزعيم وعاجله بانقلاب، جاء بالعرش الهاشمي العراقي إلى قلب دمشق معلناً القطيعة مع نظام الزعيم البائد واتفاقياته المبرمة حسب أهوائه، وهو الذي لم يمكث بالحكم أكثر من بضعة اشهر، حيث تحول المشروع لصالح شركة النفط البريطانية العراقية، وهي أيضاً لم تكتمل فصولها، إذ سرعان ما عاجلها العقيد “أديب الشيشكلي” بانقلاب ثالث أكمل فيه المشروع الذي بدأه “حسني الزعيم”، وحقق فيه الرئيس “أديب الشيشكلي” بداية حقيقية لمشاريع النتقيب عن النفط والكشف عن حقول جديدة بدعم من شركة أرامكو الأمريكية.
أما رواية “نذير فنصة” والتي أقوم بنشرها لأول مرة حول دور “وليم نوبل” في تحديد أحقيته بصك السلطان عبد الحميد و إصراره على تفعيله، فقد كشف دون أن يدري عن أدوار غامضة لبنوك مغفلة مولت الانقلابات غير أنها بقيت في ظلال الأحداث دون أن ينتبه إليها أحد، أو يذكرها كاتب أو مؤرخ إلا في عموميات النصوص التي نشرت على الأقل إلى اليوم .. بمجرد المرور العابر، لأن غالبية شهود تلك المرحلة، دفنوا أسرار تلك المرحلة معهم في قبورهم ، ولأن التحويلات البنكية تبقى دائماً سرية وقيد الكتمان، لذلك فلا يتعجب أحدكم مما يراه اليوم أمام الساحل السوري من بوارج و مدمرات حربية وطائرات لم تستخدم سابقاً في أي حرب من قبل وما رافقها من سيول للدماء في الداخل السوري ونزيف متعمد لأطياف واسعة من الشعب، فقد يُقتل أحد أبناء الرؤساء السابقين في سورية بحادث سيارة وهو لم يتجاوز الثانية والثلاثين، وفي رصيده بالبنوك الأوربية أكثر من ثلاثة عشر مليار دولار جمعت من حسابات النفط السوري، وليس هناك أي قرين أو وثيقة تدل عليها، وقد يدفن شعب بأكمله تحت الأنقاض ويُهجر نصفه الآخر كي لا ُتكشف أسرار مرحلة تاريخية ما خفي منها أعظم في البنوك الروسية والبيلاروسية وغيرها .. !!