شهد ملف الأسلحة الكيماوية السورية تطوراً تصاعدياً في الآونة الأخيرة، وهو ما يؤشر على وجود حملة منسقة من قبل الأطراف الغربية لرفع وتيرة الضغط على نظام الأسد وداعمته الأساسية روسيا، إلى أقصاها، بهدف منع استثمار الانتصار العسكري الذي حقّقاه في سورية في الحل السياسي النهائي للأزمة السورية، وفي هذا الإطار يأتي قرار منظمة حظر الأسلحة الكيماوية الأخير ورفْع الدعاوى أمام المحاكم الأوروبية على نظام الأسد.
تسلط هذه الورقة الضوء على تطورات ملف الكيماوي السوري، وانعكاساتها على الأزمة السورية وعلى الصراع بين روسيا والغرب.
مسار ملف الكيماوي السوري
مرّ ملف الكيماوي السوري بمراحل عديدة، صدر خلالها قراران من مجلس الأمن، هما القرار رقم 2118 لعام 2013 والقرار رقم 2235 لعام 2015، لنزع السلاح الكيماوي من سورية ومنع استخدامه، كما تشكلت آليات عديدة لترجمة هذين القرارين إلى خطوات عملية. وتميزت تلك المراحل بخلاف دائم بين النظام السوري والأطراف الدولية ذات العلاقة، ووصل الأمر إلى حد توجيه ضربات عسكرية ضد النظام السوري رداً على استخدامه أسلحة كيماوية ضد المدنيين كما في عامي 2017 و2018.
وقد شكّلت حادثة ضرب غوطة دمشق بغاز السارين في أغسطس 2013، والتي أودت بحياة مئات المدنيين، أولى محطات الملف الكيماوي، وتبادل النظام السوري والمعارضة الاتهام بالوقوف وراء الهجوم، غير أن منظمة “هيومن رايتس ووتش” أكدت بعد نحو أسبوعين من الهجوم حصولها على أدلة توضح وقوف النظام وراء مجزرة الغوطة.
وكان الرئيس الأمريكي باراك أوباما قد حذر رأس النظام السوري بشار الأسد في سبتمبر 2012 من أن تحريك أو استخدام أسلحة كيماوية أو بيولوجية في الصراع الدائر في بلاده سيكون “خطاً أحمر” قد يدفع إدارته إلى تغيير حساباتها تجاه الأزمة في سورية. غير أن إدارة أوباما تراجعت عن تهديداتها بتوجيه ضربات جوية إلى النظام، بعد توصل وزيري الخارجية الأمريكي حينذاك جون كيري والروسي سيرغي لافروف إلى اتفاق على الصيغة النهائية للقرار الأممي رقم 2118 الذي تم التصويت عليه في مجلس الأمن في 27 سبتمبر 2013، والذي يقضي بتفكيك السلاح الكيماوي لدى نظام الأسد.
وتقدّم النظام السوري في سبتمبر 2013 بطلب الانضمام إلى معاهدة الأسلحة الكيماوية، وكان ذلك جزءاً من الاتفاق الروسي-الأمريكي، بهدف مراقبة تفكيك السلاح الكيماوي وإلزام النظام بعدم استخدامه مرّة أخرى، وكذلك إجبار النظام على التعاون مع منظمة حظر الأسلحة الكيماوية وفرق التحقيق التابعة لها، وفق ما ينص عليه ميثاق المنظمة، وتطبيقاً لبنود قرار مجلس الأمن رقم 2118.
لكن فرق التحقيق اشتكت مرات عديدة من عدم تعاون النظام السوري معها ومنعها من مزاولة عملها، وأصدرت العديد من التقارير بهذا الخصوص، إلا أن روسيا والصين استخدمتا حق النقض “الفيتو” لمنع إقرار أي عقوبات في مجلس الأمن على النظام السوري.
وفي أغسطس 2015 حصل تطور مهم في ملف الكيماوي السوري، سيكون له دور مهم في التطورات الحاصلة اليوم، حيث تم الإعلان عن تشكيل آلية التحقيق المشتركة (JIM) بين الأمم المتحدة ومنظمة حظر الأسلحة الكيماوية، والتي كُلفت بحسب قرار مجلس الأمن رقم 2235، بتحديد هوية المسؤولين عن الهجمات في سورية.
واتهمت آليةُ التحقيق المشتركة النظامَ السوري باستخدام غاز السارين في خان شيخون في إدلب، بالإضافة إلى شنه ثلاث هجمات حصلت ما بين عامي 2014 و2015، لتفتتح بذلك فصلاً صراعياً مع روسيا التي دعت إلى تغيير آلية عملها، وانتقدت تمثيل الخبراء داخل اللجنة، واتهمت الدول الغربية بتسييس اللجنة، وأنهت مشروع إعادة تجديد تفويضها في أكتوبر 2017 باستخدامها “الفيتو” في مواجهة مشروعَين، أمريكي وياباني، يدعوان إلى تجديد تفويض الآلية.
وفي سياق صراع روسيا مع الدول الغربية، وبعد حادثة تسميم العميل الروسي المزدوج سيرغي سكريبال وابنته، في مدينة سالزبري البريطانية بغاز الأعصاب في مارس 2018، تقدمت بريطانيا بمشروع قرار لمنظمة حظر الأسلحة الكيماوية يهدف إلى توسيع صلاحيات المنظمة، وصوتت أغلبية الدول الأعضاء في المنظمة في يونيو 2018 لصالح مشروع القرار الذي يجعل المنظمة قادرة على تسمية منفِّذي الهجمات الكيماوية، وهو ما كان محظوراً سابقاً والاكتفاء فقط بذكر حصول الهجمات بالأسلحة الكيماوية.
وفي أبريل 2020، أصدر فريق التحقيق وتحديد مسؤولية الهجمات (IIT)، التابع لمنظمة حظر الأسلحة الكيماوية، تقريراً أثبت فيه تورط النظام السوري في ثلاث هجمات، استناداً إلى أن التركيبة الكيماوية للسارين المستخدم في هجوم اللطامنة يومي 24 و30 مارس 2017 ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالـتركيبة التي سلّمها النظام لمنظمة حظر الأسلحة الكيماوية في عام 2013. وفي 12 ابريل 2021، أصدرت منظمة حظر الأسلحة الكيماوية تقريراً جديداً أكد استخدام النظام أسلحة كيماوية محرمة دولياً، وذلك خلال هجوم بغاز الكلور على مدينة سراقب في فبراير 2018. [1]
وقد سبق التقرير الجديد إدانة الأمم المتحدة في ديسمبر 2020 نظامَ الأسد، مشيرةً إلى أنه يقدم بيانات “غير كاملة” بشأن أسلحته الكيماوية، وقالت الممثلة العليا لشؤون نزع السلاح في الأمم المتحدة، إيزومي ناكاميتسو، في تصريحات صحفية: “هناك 19 سؤالاً بقيت دون إجابة”، وبالتالي “لا يمكن اعتبار البيان المقدم من سورية دقيقاً وكاملاً وفقاً لاتفاقية الأسلحة الكيماوية”.[2]
ونتيجة التقرير الأخير للمنظمة، تقدمت فرنسا بمشروع قرار لمعاقبة النظام يتضمن تعليق حقوقه في المنظمة، وأيّدته 46 دولة، وتم طرحه للتصويت في الدورة الخامسة والعشرين لمؤتمر الدول الأطراف في منظمة حظر الأسلحة الكيماوية في لاهاي في الفترة من 20 إلى 22 أبريل 2021. وتم اعتماد القرار إثر فوزه بغالبية ثلثي الدول الحاضرة، حيث شارك في التصويت 136 دولة من أصل الدول الأعضاء 193، وأيدت 87 دولة القرار، في حين عارضته 15 دولة، منها سورية وروسيا والصين وإيران، بينما امتنعت 34 دولة عن التصويت.[3] ويُعلق القرار حقوق سورية في التصويت والترشح للمجلس التنفيذي، وعدم إمكانية تولي أي منصب داخل المنظمة.
ردود الفعل على القرار
تكشف ردودُ الفعل على قرار منظمة حظر الأسلحة الكيماوية درجةَ الصراع بين الأطراف الغربية وروسيا، التي يبدو أنهما يتخذان الساحة السورية لتصفية الحسابات الأمنية والسياسية بينهما.
فقد رحب الاتحاد الأوروبي بقرار المنظمة، وأصدر مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيف بوريل، بياناً يصف القرار بأنه “رسالة قوية من المجتمع الدولي ضد الإفلات من العقاب على استخدام الأسلحة الكيماوية”.[4] ووصفت بريطانيا، عبر وفدها لمنظمة حظر الأسلحة الكيماوية، القرارَ بأنه “خطوة حيوية للحفاظ على مصداقية اتفاقية الأسلحة الكيماوية”، وكانت بريطانيا أكبر الداعمين لمشروع القرار الفرنسي، بالنظر إلى صراعها مع روسيا في هذا المجال. ورحبت الولايات المتحدة الأمريكية بالقرار، وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، نيد برايس إن بلاده “تُثني على التزام المجتمع الدولي المستمر بالتمسك بالمعيار الدولي ضد استخدام الأسلحة الكيماوية”، مضيفاً أن “استخدام الأسلحة الكيماوية من قبل أي دولة يمثل تهديداً أمنياً غير مقبول للجميع”.[5]
وعلى الجانب المقابل دانت وزارة خارجية النظام السوري قرار المنظمة، واتّهمته “بعدم الشفافية واعتبرت أن القرار لا يمثل أغلبية الدول الأعضاء في المنظمة، ويتنافى مع الإجراءات المعتمد عليها في اتخاذ القرارات”، كما اتهمت المنظمة “بتسييس قراراتها لصالح دول معينة في الاتفاقية، وبالتنسيق مع أجندات دول معادية لسوريا، وداعمة لـ”الإرهاب”.[6]
واعتبر الممثل الدائم للاتحاد الروسي، ألكسندر شولجين، أن “المنظمة تحولت من هيئة فنية إلى أداة سياسية، لمحاكمة أحد الدول الأطراف، سورية”، واعتبر أن ما حدث “عارٌ على المنظمة وعلى الدول المصوتة على القرار”، مشيراً إلى تجاهل “قواعد القانون الدولي لصالح القواعد التي دعت إليها مجموعة معينة من الدول”، واعتبر أن هدف هذه الإجراءات “تعزيز تصور أن أصل الشر يكمن في حكومة النظام السوري في دمشق، والتي يجب وإزالتها في النهاية”.[7]
وتكشف كواليس المفاوضات التي أجرتها الدول الغربية للحصول على دعم لمشروع القرار، عن جهود حثيثة للوصول إلى نسبة تأييد الثلثين اللازمة لإنجاح مشروع القرار، ذلك أن منظمة حظر الأسلحة كانت قبل ذلك تشهد توازناً، إلى حد ما، يمنع الحصول على التأييد الكاف لمثل هذا القرار[8]، وهو ما يُمثل فشلاً للدبلوماسية الروسية التي يبدو أنها تفاجأت بالنتيجة، ما دفع مندوبها في المنظمة إلى اتهام الدول الغربية بممارسة سياسة ابتزاز لدفع الدول الأخرى للتصويت لصالح القرار.[9]
ويُذكر أنه قبل صدور القرار، شهدت بعض العواصم الغربية تحركات ضد الملف الكيماوي السوري، إذ أصدرت 18 دولة بياناً، في مارس الماضي، وعلى هامش مؤتمر المانحين في بروكسل، أكدوا خلاله أن نظام الأسد استخدم الأسلحة الكيميائية ضد شعبه بشكل متكرر وفقاً لتقارير دولية لا تدع مجالاً للشك، وتعهدوا بمحاسبة النظام وتقديم المتورطين بالجرائم للمحاسبة. وأعلن مندوب ألمانيا لدى الأمم المتحدة كريستوف هويسجن، في تصريح عبر دائرة تلفزيونية مع الصحافيين في مقر الأمم المتحدة في نيويورك، أن 7 دول أوروبية طالبت مجلس الأمن، قبيل بدء جلسة بشأن برنامج سورية الكيماوي، بالعمل على تحديد المسؤولين عن استخدام الأسلحة الكيماوية، وأكد أن الدول الأوروبية لن تتسامح مع أي جهة متورطة في استخدام السلاح الكيماوي، وأوضح هويسجن أن الدول السبع هي بريطانيا وألمانيا وبلجيكا وإستونيا وفرنسا وإيرلندا والنرويج.
وتزامنت هذه التحركات الأوروبية مع رفع جهات سورية دعاوى في محاكم ألمانيا وفرنسا والسويد، تتهم قيادات عليا في النظام السوري، وبالتحديد ماهر الأسد قائد الفرقة الرابعة في الجيش السوري، بالوقوف وراء ضربات الكيماوي في غوطة دمشق عام 2013، بتفويض مباشر من بشار الأسد.[10]
وفي الولايات المتحدة الأمريكية، طالبت مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي، في رسالة إلى وزير الخارجية أنتوني بلينكن، قبل انعقاد مؤتمر منظمة حظر الأسلحة الكيماوية، بدعم فرض المعايير الدولية ضد استخدام الأسلحة الكيماوية، وذلك جراء “استمر نظام الأسد في استخدام الأسلحة الكيماوية ضد المدنيين الأبرياء في سورية، حتى بعد تفكيك مخزونه من الأسلحة الكيماوية في عام 2014”.[11]
وكانت السفيرة الأمريكية في مجلس الأمن، ليندا توماس غرينفيلد، قد اتهمت في مارس، روسيا بمحاولة عرقلة جميع جهود مساءلة النظام السوري على استخدام الأسلحة الكيماوية وتقويض دور وعمل منظمة حظر الأسلحة الكيميائية. وفي فبراير قال وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن: “يجب علينا الحفاظ على القانون الدولي ضد استخدام الأسلحة الكيماوية، وإلا فإننا نجازف بتطبيع استخدامها”، مضيفاً أنه يجب ألا تتمتع روسيا وسوريا “بالإفلات من العقاب”.
وبحسب مصادر أمريكية، فإن وزارة الخارجية باتت تمتلك معلومات دقيقة حول قيام النظام بإعادة بناء ترسانته الكيماوية، متجاوزاً بذلك القرار الأممي 2118 للعام 2013، فقد كشفت مجلة” فورين بوليسي” عن تقرير أرسلته الخارجية إلى الكونغرس خلال عام 2020، يؤكد مواصلة الأسد مساعيه للحصول على الأسلحة الكيماوية، بالإضافة لتطوير إمكانياته في إنتاج أسلحة استراتيجية كان قد خسرها خلال الحرب. وأشار التقرير إلى أن الخارجية الأمريكية تراقب عمليات الشراء التي يقوم بها النظام لدعم منظومة الأسلحة الكيماوية وبرامجه الصاروخية، مع مخاوف من ضلوع إيران بمساعدته، عبر تزويده بصواريخ بالستية تدعم ترسانة غازي السارين والكلور لديه.[12]
مضامين ودلالات قرار منظمة حظر الأسلحة الكيماوية
تَعتبر بعض الأوساط أن القرار رغم رمزيّته، إلا أنه خطوة سياسية مهمة على طريق محاسبة النظام السوري على استخدام الأسلحة الكيماوية، وتكشف حدة الردود من قبل روسيا والنظام السوري عن استشعارهما المخاطر التي تنطوي عليها التحركات الغربية، وقد عبّرت روسيا عن هذه المخاوف عبر تحذير مندوبها في مجلس الأمن من تحوّل سورية إلى عراق 2003 عندما ادّعت الدول الغربية امتلاك العراق السلاح النووي وشنّت عليه هجوماً عسكرياً ليتبين بعد ذلك عدم صدقية هذه الادعاءات.
وتتركز المخاوف الروسية بهذا الصدد حول مسألتين:
الأولى، أن الهجمة التي تم تنفيذها في سراقب في فبراير 2018، والتي أكدها التقرير الأخير للمنظمة والذي على أساسه تم صدور القرار، توجد شكوكاً بأن أمرها صدر من قبل قائد “قوات النمر” العميد سهيل الحسن، وهي القوات المدعومة من روسيا بشكل كامل، حيث تؤكد التقارير أن هذه القوات هي التي كانت تحيط بسراقب حينها، وتعتقد جهات سورية لها علاقة بتوثيق الأحداث في سورية وترتبط بشكل مباشر بمنظمات غربية، أن روسيا متورطة بهذه الهجمات، إما بإعطائها الأمر بتنفيذ الهجمة أو دعم تنفيذها بشكل أو بآخر من خلال دعم هذه القوات التي أعطت الأمر لتنفيذ الهجمة.[13]
والثانية، الخوف من إدراج عملية المخابرات الروسية ضد العميل الروسي سيرغي سكريبال وابنته في مدينة سالزبري البريطانية، ضمن هذه القضية، وبالتالي إصدار قرار ضد روسيا يُشبه القرار الذي تم اتخاذه ضد سورية، وإنْ كان ذلك غير مرجحاً لأن إصدار أي قرار ضد روسيا سيؤدي إلى انسحابها من المنظمة، وسيكون هذا بمنزلة ضربة لنظام الحد من التسلح بأكمله، وليس فقط لنظام حظر انتشار الأسلحة الكيماوية، إلا أن روسيا، وفي ظل استعار الصراع بينها وبين الغرب لا يمكنها المراهنة على اتخاذ قرارات صائبة من قبل خصومها في هذه الظروف.[14]
وتُدرج روسيا قرار منظمة الحظر في سياق الصراع السياسي بين الغرب والنظام السوري، وتَعتبره جزءاً من مساعي الغرب لإزاحة نظام الأسد، وتعتقد بوجود تصعيد عسكري سيعقب هذه الإجراءات. وما يزيد من شكوك روسيا أن القرارين الدوليين الخاصين بنزع السلاح الكيماوي السوري ينصان في فقراتهما على إمكانية اللجوء إلى الفصل السابع في حال عدم التزام النظام السوري بالقرار، وهذا ما يفسر المخاوف الروسية من إعادة تكرار السيناريو الذي تم تطبيقه على العراق في سورية.
النظام السوري والخوف من عمل عسكري
يتخوّف النظام السوري من أن يكون هذا القرار مقدمةً لعمل عسكري، إذ سبق أن شنت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا، في منتصف أبريل 2018، غارات على مواقع ومراكز في دمشق، بعد اتهام النظام السوري بضرب دوما، في الغوطة الشرقية، بالأسلحة الكيماوية. وعبّر مندوب سورية الدائم لدى الأمم المتحدة، بسام صباغ، بوضوح عن هذه المخاوف، عندما اعتبر أن القرار “يروج لاستنتاجات كاذبة بهدف خلق ذرائع لارتكاب أعمال عدوانية ضد سوريا وتشجيع التنظيمات الإرهابية على فبركة مسرحيات جديدة حول استخدام أسلحة كيميائية لاتهام الجيش السوري بها”.[15]
وما يثير مخاوف النظام بدرجة أساسية، إدراكه أن الطرق لاستهدافه باتت مفتوحة بدرجة كبيرة، إذ يمكن للدول الغربية التلويح باللجوء إلى الفصل السابع، تطبيقاً للمادة 21 من قرار مجلس الأمن 2118 والمتعلق بحالات عدم الامتثال لاتفاقية حظر الأسلحة الكيماوية، وقد تذهب تلك الأطراف إلى تجاوز الفيتو الروسي المعطِّل لمجلس الأمن.
بالإضافة لذلك يتخوّف النظام من أن يفتح القرار البابَ أمام رفع دعاوى في أغلب الدول التي صوتت على القرار، من قبل سوريين مقيمين فيها، وأن تذهب هذه الدول إلى المطالبة بإنشاء محكمة مسؤولة عن معاقبة مرتكبي جرائم الحرب، إذ اتضح أن المحاكمات التي تم الإعلان عنها في فرنسا والمانيا تستهدف لأول مرة الطبقة العليا في النظام السوري بشأن قضية الأسلحة الكيماوية، سواء فيما يتعلق بالهجمات السابقة أو ما تسميه الشكاوى سرية البرنامج الذي ينتهك بشكل صارخ القانون الدولي.
كما يستشعر النظام وجود توجه منسّق بين الفاعلين الغربيين لتهديد استقراره، حيث تؤكد مصادر في المعارضة السورية أن السيناتور ستيفن كيلن، الذي مرّر مسودة القرار الأممي 2254، يشرف على فتح مسارات أممية لاستقبال دعاوى قضائية ضد نظام الأسد في المحاكم الدولية، بهدف محاسبته على انتهاكات حقوق الإنسان.[16]
وما يزيد من احتمالية المخاطر التي قد تترتب على النظام، تزامن التصعيد الغربي ضده مع التوتر الروسي-الغربي في أوكرانيا، واحتمال استسهال الضغط على روسيا في الجبهة السورية، لوجود مبررات قانونية عديدة، ولأن ردة الفعل الروسية في أوكرانيا قد تكون أكثر حدة، وخاصة في ظل قناعة نخبة روسية أن الغرب يتجه إلى خنق روسيا، وبالتالي على روسيا أن تكون “على أعلى درجات الاستعداد القتالي لإجبار أوروبا على البحث عن تسوية مع روسيا”.[17]
الاستنتاجات
تبدو احتمالية استهداف النظام السوري بناءً على القرار الجديد ضئيلةً نظراً لحسابات سياسية وأمنية في الغرب، وعدم الرغبة في دفع روسيا إلى وقف التنسيق مع الغرب في سورية، حيث يجري الحديث عن إيجابية الدور الروسي في تقليص النفوذ الإيراني في سورية وحفظ أمن إسرائيل.[18] كما أن الدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، لا يبدو أنها تضع سورية ضمن حساباتها الجيوسياسية، فالموقف الأمريكي الحالي تجاه سورية قريب من موقف إدارة باراك أوباما التي استنكفت عن الانخراط بشكل جدي في تغيير النظام السياسي في سورية، وعقدت تفاهم “جنتلمان” مع روسيا أفضى إلى سيطرة روسية بتكلفة متدنية، وينطبق الأمر نفسه على أوروبا التي تراجعت مصالحها كثيراً في المنطقة، وباتت تنحصر في قضايا أمنية تتعلق بوقف الهجرة ومنع وصول التنظيمات المتطرفة.
لكن الأكيد، أن الغرب الذي لديه ملفات خلافية معقدة مع روسيا، سيستخدم الملف السوري كمنصة لإضعاف روسيا في ملفات أخرى، مثل وقف زخم الهجوم الروسي على أوروبا عبر إعلامه وعملائه ودعايته لصالح اليمين المتشدّد، وكذلك تهديداته الأمنية ضد دول شرق أوروبا التي أصبحت جزءاً من المنظومة الأمنية والسياسية لأوروبا.
وليس من المرجح ذهاب الحملة الغربية ضد نظام الأسد أبعد من الإجراءات القانونية، من خلال رفع دعاوى ضد نظام الأسد في المحاكم الأوروبية، واستمرار سياسة العقوبات ضد نظام الأسد، إلى حين التوصل إلى صيغة تسوية أمريكية-روسية بهذا الخصوص.
وفي هذا الإطار من المستبعد أن تتطور حملة التصعيد الغربية تجاه نظام الأسد إلى مرحلة تشكيل محكمة دولية خاصة بجرائم الحرب في سورية، أو اتخاذ إجراءات بناءً على الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، الذي يتيح استخدام القوّة ضد الطرف المخالف، ليس لأن روسيا ستستخدم الفيتو ضد أي قرار يخص سورية، بل لأن هذا المسار سيرتب التزامات على الدول الغربية لا يبدو أنها مستعدة للتورط بها.
لكن من جهة أخرى، فإن قرار منظمة حظر الأسلحة الكيماوية، والتحقيقات الجارية في أوروبا، ستعقِّد مستقبل الأسد، وخاصة إذا ما تم توجيه الاتهامات في جرائم الحرب أمام المحاكم الأوروبية، كما ستجعل إمكانية تعافي سورية وخروجها من المأزق الراهن أمراً شديد الصعوبة، إذ يصعب إمكانية إطلاق عملية إعمار في سورية، أو الحصول على مساعدات خاصة، وهو الأمر الذي سيضطر روسيا إلى إعادة حساباتها في سورية.
الهوامش
[1] حسام جمّال، “تجميد صلاحيات النظام في منظمة “حظر الكيماوي”.. الجدوى والأهمية”، تلفزيون سوريا، 22 أبريل 2022.
[2] “الأمم المتحدة تحث سورية على التعاون لحسم القضايا المتعلقة بالأسلحة الكيمائية”، موقع الأمم المتحدة، 3 فبراير 2021.
[3] “نظام الأسد يصف عقوبات حظر الأسلحة الكيميائية بـ”التطور الخطير””، السورية نت، 21 أبريل 2021.
[4] “الاتحاد الأوروبي يرحب بتجريد سوريا من حق التصويت بمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية”، يورو نيوز، 22 أبريل 2021.
[5] “أبرز الردود على تجريد النظام من امتيازات منظمة حظر الأسلحة الكيماوية”، عنب بلدي، 22 أبريل 2021.
[6] “سورية تدين بشدة القرار الذي تم تمريره في مؤتمر الدول الأطراف بمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية”، وكالة سانا للأنباء السورية، 21 أبريل 2021.
[7] “مندوب روسي: القرار ضد سورية يدل على تحول منظمة حظر الأسلحة الكيميائية لأداة سياسية”، صحيفة البعث السورية، 21 أبريل 2021.
[8] Anthony Ruggiro and Andrea Striker, “A Chance to Stop Syria and Russia from Using chemical Weapons,” Foreign Policy, 8 April 2021.
[9] “روسيا تكشف حيل الغرب ضد سوريا عبر منظمة حظر الأسلحة الكيميائية”، سبوتنيك، 22 أبريل 2021.
[10] Marlise Simons, “Criminal Inquiries Loom Over al-Assad’s Use of Chemical Arms in Syria,“ New York Times, 2 March 2021.
[11] “Shaheen, Risch, Menendez: U.S. Must Hold Syrian Regime Accountable for Illegal Use of Chemical Weapons,” 20 April 2021: https://www.shaheen.senate.gov/news/press/shaheen-risch-menendez-us-must-hold-syrian-regime-accountable-for-illegal-use-of-chemical-weapons
[12] Jack Detsch, Colum Lynch, and Robbie Gramer, “Syria Is Still Trying to Use Chemical Weapons,” Foreign Policy, 6 October 2020.
[13] عماد كركص، “الجرائم الكيماوية تهدّد الأسد”، العربي الجديد، 17 أبريل 2021.
[14] “أعلنوا أن سورية سامة”، روسيا اليوم، 23 أبريل 2021.
[15] “شولغين: القرار الغربي في منظمة حظر الأسلحة الكيميائية ضد سورية يدل على تحول المنظمة إلى أداة سياسية”، وكالة سانا السورية للأنباء، 21 أبريل 2021.
[16] طارق دعاس، “إلى قفص المحاسبة.. تحقيق أممي جديد يدين الأسد باستخدام الكيماوي”، تلفزيون سوريا، 12 أبريل 2021.
[17] “لا بد من معركة: العلاقات الروسية الأمريكية تحتضر”، روسيا اليوم، 21 أبريل 2021.
[18] Mark Katz, “Russian policy toward Syria: The perils of success,” Opinion Contributor, The Hill, 23 April 2021: https://thehill.com/opinion/international/549884-russian-policy-toward-syria-the-perils-of-success