دارت عليه ودالت وتواصلت وتتالت ، ثم ارتقت وماجت ونزلت فساحت وهو يقلب الوجه ذات اليمين مرة وذات الشمال مرات حتى صار مثل طير كسير الجناح حط بمصيدة سباع ، لكنه ظل يحاور ويناور ويزرع رأسه العالي في حلق مدفع صامت ، فتحير به الرماة وتبكي على منظره العتاة ، فلا من قائل أريحوه ولا من أفتى به وجعله من الطلقاء ، ولا من قال له ادخل بيتك فأنت آمن ومؤتمن ، أما هو فما زال يحس بيدٍ عليا تمسد شعره وتحمي جمجمته وصوت أبي الطيب المتنبي يجلجل ويأتيه من شقٍّ بعيد : يا أيها الدرويش العابد العاشق البديع المطمئن ، إني والحقُّ لأراك قاعداً بجفن الردى وهو نائمُ !!
أما هم فلقد التأمت دائرتهم الكبرى التي عرضها مثل طولها وطولها مثل بحر عظيم ، فحلَّ عليهم وباء الجدل حتى كاد واحدهم يكسر عظم ثانيهم وثالثهم يبصق بوجه رابعهم ، فاشتدت بينهم نتوءات الكلام وداخوا وكانوا في سبيلهم لانهاء الأمر بالفرار ، لولا خزرة صارمة حازمة آمرة أعادت مجلس القيل والقال وما سيقال الى خاصرة البدء التي بعدها القرار .
قالَ صغيرُهُهم جسماً وعمراً وعقلاً : بولوا بدربِهِ فيتزحلق فتنكسر رقبتُهُ فنضحكُ عليه ببياض أسناننا كثيراً فيموتُ قهراً وكمداً ومهانة .
زادَ أوسطُهُم الذي لوّح بالوسطى : لنرمي على وجهه سلةَ جوائح فيمرض وتتوزع نواقيطُ أنفاسه على الكورونات السابحات الباكيات .
فاهَ أخبثُهُم وأجيفهم : ضعوا بكأسه عشباً مدواخاً واصعدوا به فوق رأس جبل واتركوه نهباً وطعماً للسباع وللكواسر والطير والنمل ، وعند مفتتح الشمس هلمّوا ولمّوا عظامَهُ ولحيَتَهُ وحروفَهُ واجعلوا منها حطبَ وليمةٍ صاخبةٍ باذخةٍ تكادُ تصيحُ ، فلا ضريح له ولا مَن يحزنون ويصرخون ويشقّون الجيوب ويقصون النواصي .
منّت عليهم امرأة الكبير قالت دعوه يعيش بيننا ولنتخذه حارساً وخادماً وساقياً وراعياً ، فإن جاع رمينا بماعونه أرذل الفتات ، وإن عطش أمرناه بأن يشرب من سطل البعير ، حتى يبيد حيلُهُ وتتهشش عظامه ويركّ نظره ويقصر لسانه ، فنسير به مربوطاً مسحولاً صوب أرض يباب وعاقول وشوك وأفعى وعقارب وصقور وذئاب ووحشة كأنها قبرٌ ملعون !
كان هو يسمع ويضحك وهم يتصايحون ويتجادلون حتى فزَّ من قوة أذان الفجر الجميل.