ذي إيكونوميست: مصرفية ، أميرة ، أميرة حرب : حياة أسماء الأسد المتعددة

كيف أصبحت فتاة من غرب لندن الفائز غير المحتمل في الحرب السورية ؟

انتشرت خلال الصيف الماضي صورة للسيدة الأولى في سوريا على وسائل التواصل الاجتماعي، في الوقت الذي كانت فيه قوات النظام الأسدي في شمال غربي سوريا تدك ما تبقى من جيوب للثوار المناهضين للنظام، وتظهر تلك الصورة أسماء الأسد برفقة زوجها بشار وأولادها الثلاثة وهم يقفون على قمة تلة جرداء يحيط بهم الجنود بلباسهم المموه. كان بشار يرتدي معطفاً مضاداً للمطر له قبعة، وحذاء رياضياً، وقميصاً قطنياً تركه طليقاً خارج بنطاله، فبدا بهيئته تلك كمن يقود الأطفال في نزهة سيراً على الأقدام خلال عطلة نهاية الأسبوع، لا ديكتاتوراً يصدر أوامر تقضي بتعذيب معارضيه. أما أسماء فقد وقفت وقفة صلابة أكثر من زوجها، واضعة يديها على جنبيها، وهي ترتدي بنطال جينز أبيض، وحذاء رياضياً، وقد وضعت فوق عينيها نظارة شمسية داكنة كتلك التي يرتديها الطيارون ويعشقها المستبدون في الشرق الأوسط. كانت أسماء تتوسط تلك الصورة، أما زوجها الذي يعتبر رأس النظام، فقد وقف إلى جانبها بشكل أخرق.


كان الهدوء والطمأنينة التي يبثها المنظر الطبيعي خلف أسماء مجرد مظهر زائف. إذ بعد مرور عشر سنوات على بداية الربيع العربي، الذي هب فيه ملايين المواطنين في الشرق الأوسط ضد الأنظمة القمعية، تمكنت الأسرة الحاكمة في سوريا من الاحتفاظ بالسلطة، إلا أن الثمن كان باهظاً بحق.

فقد قتلت قوات النظام الآلاف من السوريين، وعذبت أكثر من 14 ألف مواطن حتى لفظوا أنفاسهم الأخيرة، كما هرب نصف السكان من بيوتهم، ما أدى إلى ظهور أكبر أزمة لجوء منذ الحرب العالمية الثانية. وعندئذ دخلت إيران وتركيا وأميركا وروسيا في حروب بالوكالة من أجل بسط نفوذها على التراب السوري. وهكذا وفي مختلف أنحاء العالم العربي، منيت الأحلام الواعدة التي سعت إليها الشعوب قبل عقد من الزمان بالسحق، إلا أن كل تلك الدول لم تشهد حرباً دموية كتلك التي عاشتها سوريا.

بيد أن أسماء أصبحت اليوم أقوى وأكثر نفوذاً من أي وقت مضى، بعدما مضت برحلتها في طرق متعرجة وملتوية حتى تحقق السيادة والتفوق على هذه الأرض المدمرة، وذلك لأن دربها فرش بحالاتها وأدوارها المتعددة وهي: عملها كموظفة لدى بنك جي بي مورغان عندما كانت تبرم صفقات في ساعات متأخرة من الليل، وصورتها كسيدة أولى متألقة اعتقدت بأن الإصلاحات الاجتماعية التي تفصل بشكل دقيق على مقاس البلاد يمكن أن تدخل التحديث على دولة منبوذة، ودورها كماري أنطوانيت دمشق، حيث كانت تتسوق وبلادها تحترق، ودورها كأم لهذا الشعب، ومحاربتها للسرطان في الوقت الذي كانت فيه قوات زوجها تسحق الثوار.


كانت إنجليزية جداً وبدت وكأنها لا تريد لشيء أن يربطها بسوريا

متى ستنتهي رحلتها؟ إن صعودها وظهورها في بلاط عائلة الأسد لم يعد محور الحديث والثرثرة بين من يراقبون الوضع في سوريا. إذ خلال العام الفائت، وصفت الحكومة الأميركية أسماء بأنها شخصية من بين “أسوأ المتربحين من الحرب السورية صيتاً”. وهنالك أحاديث تدور في السر حول إمكان خلافتها لزوجها ووصولها إلى منصب الرئاسة في يوم من الأيام. بيد أن الشيء المؤكد هو أن أسماء قطعت شوطاً طويلاً بعدما غادرت بيتها شبه المنعزل في لندن حيث كبرت وترعرعت.

كانت تلك بداية لم يتوقعها أحد لزوجة ديكتاتور، فقد ولدت أسماء الأخرس عام 1975 بآكتون في غربي لندن القريبة من أكثر الأحياء ترفاً وغنى في تلك المدينة. وكان أهلها مسلمين يتبعون المذهب السني، مثلهم مثل غالبية السوريين، إذ يعتبر هذا المذهب هو الأكثر شيوعاً في سوريا حتى ستينيات القرن الماضي، بعد ذلك قامت طائفة صغيرة ومهمشة وهي الطائفة العلوية بتدبير انقلاب في البلاد، وكان حافظ الأسد، والد بشار، جزءاً من ذلك المخطط، ثم أعلن نفسه قائداً لتلك الدولة في عام 1970.

سافر والدا أسماء إلى لندن في سبعينيات القرن المنصرم بحثاً عن فرص حياة أفضل، وبقيت الأسرة على دينها في المغترب، إذ ظل والدها يحضر صلاة الجمعة، ولم تخلع الأم حجابها إلا بعد زواج أسماء. ويصف الأصدقاء تلك الأسرة بأنها محافظة من الناحية الثقافية، لكنها حريصة على اندماج الأبناء واستيعابهم ضمن ذلك المجتمع. ففي المدرسة الابتدائية التابعة للكنيسة المحلية، كانت أسماء تعرف باسم إيما، حيث يتذكر أحد الجيران ذلك فيقول: “لا بد أن تتوه قبل أن تدرك أنها سورية”.

ويبدو أن قدرها أن تعيش بين النخب الثرية في لندن، إذ عندما بلغت أسماء سن المراهقة، أخذت ترتاد إحدى أعرق المدارس الخاصة للبنات في بريطانيا، ألا وهي كوينز كوليدج، القريبة من عيادة والدها الخاصة في هارلي ستريت. ثم حصلت على شهادة في علوم الحاسوب من جامعة كينغز كوليدج بلندن، حيث يتذكرها كل أصدقائها ومنتقديها بأنها كانت ذكية ومجتهدة.

بيد أن أحداً لا يتذكر أنها أبدت أي اهتمام بالشرق الأوسط، ففي زياراتها لدمشق برفقة أهلها، كانت تمضي وقتها بالقرب من مسبح فندق شيراتون، وعن ذلك يقول أحد أصدقاء أسرتها: “كانت إنجليزية جداً وبدت وكأنها لا تريد لشيء أن يربطها بسوريا”.

لم يندهش أحد عندما حصلت أسماء على وظيفة في مصرف جي بي مورغان الاستثماري، حيث يجب على الموظفين أن يعملوا لمدة تصل إلى 48 ساعة بوتيرة سريعة، وقد يتعين عليهم أن يناموا في مكاتبهم أيضاً. كان بعض المتدربين لدى هذا المصرف يبدون جرأة وهشاشة وطموحاً بشكل واضح، بيد أن مدير أسماء واسمه بول جيبيس يتذكرها بأنها كانت: “رشيقة ومهذبة وخانعة” وترتدي بزات سوداء أنيقة، وقد تخصصت أسماء في عمليات الدمج والاستحواذ (تلك الخبرة التي استفادت منها في سوريا لاحقاً). وهناك أخذت تواعد أحد الزملاء الغرباء، كما قدمت لها عروض زواج حينذاك. وبالرغم من أن راتبها كان كبيراً وقتها، فإنها بقيت تعيش مع والديها خلال فترة عملها بلندن.

نفور بشار من الدم دفعه إلى التخصص في طب العيون

كانت لدى سحر، والدة أسماء، مخططات طموحة بالنسبة لابنتها، فقد ساعد عمها حافظ الأسد بالاستيلاء على السلطة، وقد استعانت سحر بصلة الوصل تلك لتؤمن وظيفة في السفارة السورية بلندن. كما سعت أيضاً لترتيب أمور زواج ابنتها من بشار، الابن الثاني لحافظ، بحسب ما ذكره سام داغر في كتابه: (الأسد أو نحرق البلد). وهكذا التقى الشابان مرات عديدة عندما كان بشار طالب طب لم يحقق أي نجاح يذكر في لندن خلال تسعينيات القرن الماضي.

ترعرع بشار في ظل والده القائد، وكان الابن الوحيد الذي درس في الخارج من بين أبناء حافظ الستة. إلا أن نفور بشار من الدم دفعه للتخصص في طب العيون، ذلك التخصص الذي لا يحظى بكبير احترام بين التخصصات الطبية الأخرى. ويخبرنا عنه معلمه إدموند شولنبيرغ بأنه كان بارعاً في تجفيف الكيسات والخراجات.

كان شقيق بشار الأكبر، باسل، يخدم في الجيش ويقود السيارات بسرعة، ويطارد النساء، أما بشار فقد كان مجتهداً ودقيقاً ويداوم في الكلية بشكل يومي ويبتعد عن الحياة الصاخبة بحسب ما يخبرنا وفيق سعيد، وهو مغترب سوري ثري، كما كان يستمع لفيل كولينز ولأوركسترا إلكتريك لايت، ويشرب الشاي الأخضر ويتجول بدراجته في أرجاء المدينة. وبخلاف والده الذي حافظ على لكنته الفلاحية، يتحدث بشار بلهجة النخبة الدمشقية المهذبة والخفيفة.

إلا أن بشاراً أخذ يلاحق النساء أيضاً، وصار يواعد في كثير من الأحيان الفتيات الجميلات اللواتي يتخلى عنهن شقيقه باسل. غير أنه لم يختر زوجته بمفرده، إذ عندما توفي شقيقه باسل بحادث سيارة عام 1994 (ورد أنه كان يقود سيارته المرسيدس بسرعة جنونية على الطريق الدولي المؤدي إلى مطار دمشق) تعلق مصير سلالة الأسد فجأة برقبة بشار.

لم يكن بشار قد تزوج عندما توفي والده في عام 2000، ثم أصبح رئيساً بعد ذلك بشهرين، عقب انتخابات مزيفة. في تلك الأثناء، كانت أسماء تعمل في مكتبها لدى بنك جي بي مورغان بعدما تم تعيينها قبل عامين على ذلك. لكنها اختفت فجأة مدة ثلاثة أسابيع من دون أن تعلم أحداً بذلك، وعند عودتها أخبرت رب عملها بأنها أغرمت بسوري جذاب حملها معه إلى ليبيا حيث عقد عليها في خيمة وسط الصحراء، ثم استقالت على الفور، كما تخلت عن مقعدها الذي حصلت عليه حديثاً في كلية إدارة الأعمال بجامعة هارفارد، وعندما سألتها صحفية لاحقاً إن كانت قد ندمت على ذلك، ردت بالقول: “من ذا الذي يفضل هارفارد على الحب؟”

عقيلة الرئيس لا السيدة الأولى 

وهكذا، وفي خطاب القسم، تعهد بشار بمحاربة الفساد وإجراء انتخابات حقيقية تتميز بالتعددية الحزبية، ولم يمض وقت طويل على ذلك حتى أغلق أحد أكبر السجون في سوريا. ثم أصبح الناس يتناقشون بالقضايا السياسية بشكل حذر في مقاهي دمشق.

تتحول سوريا إلى جغرافيا معقدة بعد مغادرتك لفندق شيراتون، حيث تؤوي جبالها والبادية فيها فسيفساء تضم خليطاً من المجموعات العرقية والدينية، معظمها تعرض للاضطهاد من قبل المجموعات الأخرى في وقت من الأوقات. وقد احتلت فرنسا هذه البلاد بعد خروج العثمانيين منها، وكان احتلالها بين الحربين العالميتين قصيراً وأثار الكثير من الاستياء والنقمة. أما السنوات الأولى بعد استقلال سوريا فقد شابتها فتنة داخلية قاسية، وقيام انقلاب تلو انقلاب.

انتهت مرحلة الاضطرابات تلك في عام 1970، مع صعود حافظ الأسد، ذلك الضابط العنيد في القوات الجوية الذي ينتمي إلى حزب البعث الحاكم. وخلال سنوات حكمه التي سادها الخوف، كانت أفرع الأمن تدير شبكة من الجواسيس والمخبرين، وتتنصت للمكالمات الهاتفية، وتمارس التعذيب بحق المواطنين من دون تمييز. وعندما ثار المعارضون المسلمون الذين ينتمون إلى المذهب السني ضد حكم البعث في حماة عام 1982، سوّى حافظ أجزاء كاملة من تلك المدينة بالأرض.

كان حافظ قد توفي عندما انتقلت أسماء إلى دمشق بنهاية عام 2000، بيد أن إرثه توزع في كل مكان، ذلك الإرث الذي تمثل بفن العمارة وفقاً للطراز السوفياتي، فضلاً عن تلك اللوحات الإعلانية التي تحمل وجهه مع عبارات متزلفة، كما أن دعمه للتنظيمات الإرهابية في عموم المنطقة قد عزل سوريا عن الغرب، ولهذا أصبح صعود بشار فرصة لإعادة ضبط تلك العلاقات.

بدت أسماء قرينة واعدة لقائد سوريا الجديد، فقد كانت الملكة رانيا في الأردن، بل حتى الأميرة ديانا في بريطانيا نماذج تعبر عن تميز وألق السيدة الأولى التي يمكن أن تصبح قوة تدفع نحو الإصلاح. وقد بدا حزب البعث العلماني في سوريا أكثر تقبلاً لشغل المرأة لأدوار تتصل بالشأن العام مقارنة بمعظم الدول العربية، وحول ذلك يقول وفيق سعيد، ذلك المغترب السوري الثري الذي كان صديقاً للزوجين: “خلت أن تركيبة هذين الشخصين لا بد أن تحول سوريا إلى جنة”.

ولكن كغيرها من النساء اللواتي سبقنها، كان على أسماء أن تحسب ألف حساب لأهل زوجها، فقد كانت أنيسة والدة بشار تريد لابنها أن يتزوج من طائفته، وذلك ليستمر حكم تلك السلالة تماماً كما حدث مع آل سعود في السعودية، بل إن بعض أفراد عائلته ارتأوا أنه يتعين على بشار التنازل عن الرئاسة بسبب زواجه من امرأة سنية المذهب.

وبعد فشلها في إحباط ذلك الزفاف، قررت والدة بشار أن تخفي الأمر برمته، ولهذا لم تصدر أي نشرة إخبارية بشأن ذلك الحدث الذي تم من دون ضوضاء، كما لم تنشر أي صورة رسمية لذلك العرس. وكانت أسماء تسمع دوماً أن دورها ينحصر في إنجاب الورثة والابتعاد عن الصحافة. كما أصرت والدة بشار على الاحتفاظ بلقب السيدة الأولى، في الوقت الذي أخذ فيه الإعلام الرسمي يشير إلى أسماء بلقب عقيلة الرئيس، وهكذا لم يكن بوسع أحد أن يتعرف إليها عندما تمشي في الشارع.

حبسوها في البيت لسنوات

كانت الحياة المنزلية تعيسة، إذ يقول أيمن عبد النور مستشار بشار في ذلك الحين عنها: “كانوا يكرهونها.. فقد حبسوها في البيت لسنوات”، كما لم تكن أسماء تتحدث العربية بطلاقة بعد، لذلك عندما كانت العائلة تجتمع لتناول أي وجبة، كانوا يتبادلون الأحاديث بلهجتهم الساحلية العصية على الفهم.

كما أن بقية النخبة الحاكمة لم تبد لها أي مشاعر ودية، فقد وصلت إصلاحات بشار إلى طريق مسدود، بسبب الحرس القديم لوالده على وجه الخصوص، وبشأن ذلك يعلق رجل أعمال سبق له التعامل مع النظام فيقول: “كان حافظ الأسد كالأخطبوط الذي يسيطر على أذرعه كافة، ولهذا ظهر بشار في بداية الأمر وكأنه أخطبوط سيطرت عليه تلك الأذرع”.

وفي غضون أشهر اتضح بأن الوعود الإصلاحية لبشار كانت واهية، وبأن الغرض منها حشد الدعم بشأن خلافته لأبيه، وعن ذلك يقول وفيق سعيد: “بشار يقول لك ما تريد أن تسمعه منه بالضبط، ثم لا يفعل شيئاً على الإطلاق”. وسرعان ما تراجع بشار عن وعوده، فاعتقل المثقفين وحبسهم، كما انتشرت صور لبشار ضاهت بكبر حجمها تلك الصور المنتشرة لأبيه. كما شدد القيود على حق التجمع للعامة أكثر فأكثر، حتى أنه بات يتعين على من يعقدان قرانهما الحصول على موافقة أمنية من قبل الدولة حتى يقيما حفل عرس في فندق.

وبذلك تلاشت الآمال لتغيير سوريا على مراحل، إذ عقب هجمات 11 سبتمبر الإرهابية، قدم بشار للأميركيين تسهيلات حتى يقوموا بالتحقيق مع من يشتبه بتورطهم بالإرهاب، بيد أن إدارة بوش كانت ميالة “لنشر الديمقراطية”، ولهذا فإن مجرد اقتراح سوريا على أنها الهدف التالي بعد العراق دفع النظام في سوريا إلى تغيير مساره، فقد أرسل بشار جهاديين من أبناء البلد لدعم الثورة التي قامت في العراق ضد الأميركيين.

ومع تعزيز بشار لسلطته، كانت أسماء تؤدي دورها كزوجة ولود بكل أمانة وإخلاص، حيث أنجبت ثلاثة أولاد في تتابع سريع، كان بينهما صبيان، كما بقيت ترتدي ثيابها كموظفة بنك رزينة، وكانت المرات الوحيدة التي تصدرت فيها عناوين الصحف عندما أخذت تسافر خارج البلاد، ومع ذلك ظل أهل زوجها حاقدين عليها.

انعكست القسوة داخل تلك العائلة على خبث أفرادها وشرورهم خارجها، ففي يوم عيد الحب من عام 2005، أدى تفجير سيارة إلى مقتل أحد أبرز السياسيين في لبنان، وهو رفيق الحريري. كانت سوريا قد أبقت تلك الدولة الجارة الصغيرة المعطلة، تحت قبضتها المحكمة، ولهذا خمن كثيرون بأن الأسد هو من أصدر أوامر باستهداف ذلك الرجل. ولكن عندما تعرض بشار لخطر العقوبات الدولية، وجوبه بمظاهرات عارمة في لبنان، تراجع عن ذلك كله، فسحب جنوده من لبنان بعد مرور 30 عاماً على احتلالها، الأمر الذي أغضب المتعصبين في سوريا.

لم يعد بشار بحاجة إلى حلفائه، بعدما أصبح بمقدور زوجته البريطانية استرضاء الحكومات الغربية، كما وعد أسماء بإسكات أهله بعدما وافق على منحها لقب السيدة الأولى، (إلا أن وسائل الإعلام الرسمية السورية لم تبدأ باستخدام هذا اللقب للإشارة إلى أسماء إلا بعد وفاة أنيسة في عام 2016). وأخيراً، أصبح لأسماء مقعد على طاولة العائلة.

وبعد شهرين على اغتيال الحريري، وتحديداً في نيسان من عام 2005، وقفت أسماء بجانب زوجها في جنازة البابا يوحنا بولس الثاني، حيث لم يبادر إلا القليل من الحضور لمصافحة بشار، إلا أن أسماء التي تعمدت أن تظهر بمظهر آسر بعدما غطت وجهها بغلالة من الدانتيل الأسود، لفتت الأنظار أكثر من زوجها، وهكذا انتشرت صورها وهي تتعامل بأريحية ومودة مع قادة العالم.

كانت تلك لحظة مفصلية لهذين الزوجين، إذ حتى ذلك الحين كانت أسماء تتعرض للإقصاء والتهميش كونها زوجة أجنبية، ولكنها ظهرت في ذلك اليوم لتلعب دوراً أساسياً في إعادة تأهيل بشار على المستوى الدولي، وعنها يقول عبد النور المستشار السابق لبشار: “كانت سفيرته لجميع الدول، إذ من دونها لم يكن بوسعه أن يختلط مع الآخرين”.

وفي مقابلاتها مع الإعلام الغربي، لم تستطع أسماء إلا أن تبز بشار (ففي محاولة للفت نظر الجمهور المسيحي وإعجابه، أخذ بشار يصف اليهود بقتلة المسيح). وفي الداخل أيضاً، أضفت أسماء على صورة الزوجين لمسة لطيفة، حيث أخذت أسرة الأسد تستعرض تواضعها، فابتعدت عن الظهور في القصر العملاق المكسو بالرخام الذي بناه السعوديون لأسرة الأسد وكلفهم مليار دولار، وأخذت تلك الأسرة الصغيرة تقيم في بيت متواضع قريب مؤلف من ثلاثة طوابق. كما أخذت أسماء تعيد أطفالها إلى البيت من مدرسة مونتيسوري القريبة كل يوم. وعندما دعي وفيق سعيد لتناول طعام العشاء في بيتهم، دهش لعدم وجود مظاهر الأبهة والفخامة فيه، وعن ذلك يقول: “لم نر أي خدم، بل قدم لنا هو وزوجته طعام العشاء”.

أطلق دبلوماسيون سوريون عليها اسم إميلدا ماركوس

وبمساعدة مصفف شعر جديد، زادت إطلالات أسماء، كما زاد علو كعب حذائها وطول أقراطها، وأصبحت أظافرها تطلى وتشذب، وبالرغم من عدم ارتدائها هي وبشار لخاتم الزواج، فإنها أخذت تتقلد العقيق الملكي في رقبتها. إذ يتذكر العاملون في العمليات الأرضية لدى الخطوط الجوية السورية في لندن رتل الصناديق الذي لم ينته والذي يضم ثيابها التي جلبتها من أرقى المتاجر بلندن، ولهذا أصبح الدبلوماسيون السوريون يطلقون عليها اسم إميلدا ماركوس تيمناً بسيدة الفلبين الأولى التي أدمنت شراء الأحذية.

وهكذا نجح أسلوب الهجوم الآسر، إذ بعد مرور أشهر فقط على اغتيال الحريري، سألت صحيفة نيويورك تايمز ما إذا كان هذا الثنائي يمثل: “جوهر الانصهار العلماني بين العالم الغربي والعربي”، وعن ذلك يقول أحد الدبلوماسيين السوريين الذي نظم جولة أوروبية لهذين الزوجين ويعيش حالياً في المنفى: “لقد انبهرت بها إذ تبدو لك لطيفة عندما تقابلها، أما هو فيختلف عن غيره من الديكتاتوريين في الشرق الأوسط، لأنه يبدو متحضراً ومتطوراً، وهذا ما يجعل منه شخصية خطرة جداً”.

الصدام مع رامي مخلوف

كان المشروع التالي لأسماء هو سوريا بحد ذاتها، إذ بعد عقود من التخطيط المركزي والقيود المفروضة على عمليات الاستيراد، رغبت أسماء بتحديث سوريا، فأبهرت زوجها بالمصطلحات المالية ودفعت نحو انفتاح القطاع المصرفي على الشركات الخاصة والأجنبية، وعن ذلك يخبرنا أحد خبراء الاقتصاد السوريين الذي يتمتع بصلات جيدة معها فيقول: “كانت تريد أن تحول دمشق إلى دبي في هذه المنطقة، وإلى ملاذ للتهرب الضريبي بعيداً عن القيود المالية”.

لسوء الحظ، هددت الإصلاحات الاقتصادية مصالح بعض كبار المتنفذين في سوريا، ولتغيير طريقة تنفيذ تلك المشاريع والأعمال، بات لزاماً على أسماء أن تقف ضد رامي مخلوف، ابن خال بشار الأرستقراطي. إذ بعد إجراء بعض التقديرات يمكن القول إن شركات مخلوف تتحكم بأكثر من نصف الاقتصاد السوري، ولهذا حاولت أسماء أن تتحدى نفوذه في عام 2007 عبر إنشاء شركتها القابضة الخاصة، إلا أنها لم تتمكن من اجتذاب كم كبير من الشركات التجارية التي لها وزنها في البلد، وذلك لأن تلك الشركات بقيت تدور في فلك رامي، ولهذا كان على مخططاتها بالنسبة للاقتصاد السوري أن تتروى وتتنظر.

وسرعان ما اكتشفت أسماء طريقة جديدة لبسط نفوذها، إذ سبق لها أن دخلت عالم الأعمال الخيرية في بداية زواجها، فأصبحت تسعى لجمع مشاريعها ضمن منظمة واحدة، وهي الأمانة السورية للتنمية، وصارت تعمل على جعل هذه الأمانة نقطة الوصل الأساسية لسوريا مع العالم، وهكذا أخذت توظف سوريين يتحدثون اللغة الإنجليزية ويعيشون في الخارج، إلى جانب توظيفها لموظفين سابقين لدى الأمم المتحدة، ومخططين استراتيجيين من مونيتور غروب وهي شركة استشارات إدارية مقرها بوسطن، بل وصلت بها الأمور لتوظيف ابنة دبلوماسي ألماني، وعن ذلك يخبرنا دبلوماسي عايش تلك الأحداث في دمشق وقتها، فيقول: “لقد تم ترخيص الأمانة لتتعامل مع الأجانب في الوقت الذي لم تمنح فيه هيئات أخرى ذلك الامتياز”.

ارتأت أسماء لسوريا أنه لا بد لها أن تتحول إلى وجهة سياحية مرغوبة بفضل طبيعتها المتنوعة وغناها بالآثار، ولهذا قامت بتوظيف قيمين على المتاحف من اللوفر والمتحف البريطاني ليقوموا بإعادة تصميم مركز مدينة دمشق. إذ كان من المقرر تحويل مصنع إسمنت إلى معرض على غرار معرض تات مودرن بلندن، إلى جانب إعادة تأهيل الضفتين اللتين يمر عبرهما نهر مملوء بالقذارة يخترق وسط المدينة وتحويل تلك الضفاف إلى متنزه حضاري. وقد تم التخطيط لمد سكة حديد جديدة تربط مدينة دمشق القديمة بمدينة حلب القديمة الواقعة في شمال شرقي البلاد، أي تلك المنطقة التي تعاني من التخلف وضعف التنمية فيها.

ولهذا أخذ معظم الدبلوماسيين الغربيين في دمشق يدعمون الأمانة السورية التي أنشأتها أسماء بكل سرور، بعدما أبهرت الاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة، والبنك الدولي، فقدموا لها ملايين الدولارات لتمويل رؤيتها. كما احتفت مجموعة من المقالات الصحفية بالنهضة الثقافية لدمشق على حد تعبير أسماء، وعن ذلك يقول زوجها بشار: “هكذا تحارب التطرف، من خلال الفن”.

بيد أن زملاءها في العمل رأوا الجانب الآخر من كل هذا، فعندما تكون الأمور بخير تبدي أسماء حب اطلاع واسع وتبدو قادرة على التكيف بشكل مذهل، بحسب ما ذكر أحد موظفيها السابقين، غير أن أحد الاستشاريين لديها يتذكر مزاجها الذي يشبه مزاج أميرة، فقد “كانت تصرخ وتنفس عن غضبها، كما كانت مهووسة بحب السيطرة، ولهذا أجدها شخصية مخيفة” (وقد استقال هذا الاستشاري بعد ثمانية أشهر من العمل معها).

لكنها كانت ناجحة ومؤثرة أيضاً، إذ يخبرنا أحد من عملوا معها في دمشق مدة ست سنوات: “كنا نستغرب عندما تقول: أريد أن يحدث كذا وكذا، ثم يحدث كل ذلك وقد تكرر هذا عدة مرات”. بيد أن العاملين لديها كانوا يعملون ساعات عمل مضنية كتلك التي اعتادت عليها في بنك جي بي مورغان، إذ كان دوام المكاتب يبدأ في الساعة السادسة فجراً، ولا ينتهي إلا بعد حلول المساء. وكان الموظفون لديها يدركون أن عليهم استشارتها هي لا وزير الثقافة حول أهم القضايا.

هذا وقد تعاملت أسماء مع شركات علاقات عامة في بريطانيا وأميركا لتلمع صورتها، فأخذت تلك الشركات ترسل إليها نواباً في البرلمان من مختلف دول العالم ليثنوا على ما تقوم به من عمل. كما أصبح المشاهير يزورون دمشق، وعلى رأسهم أنجيلينا جولي وبراد بيت، وستينغ ودامون آلبارن. ثم قام مفتي سوريا بتوجيه دعوة ليهود سوريين هربوا من القمع والاضطهاد قبل عقود. بعد ذلك رتبت شركة براون لويد جيمس للعلاقات العامة، وهي شركة أميركية، أمر ظهورها على غلاف مجلة فوغ في شهر آذار من عام 2011، حيث بدت أسماء “كوردة في الصحراء” مصيرها أن تحول سوريا إلى علامة فارقة.

إلا أن اختصاصات وصلاحيات الأمانة بقيت محدودة، وعنها يقول أحد الموظفين: “لم نتدخل بأي شيء يتصل بالمساجد أو الدين أو السياسة”، إذ كان من الصعب ضبط تلك الحدود، فقد قام معلمون بجولة في سوريا حاملين معهم كوخ أسكيمو كبيراً قابلاً للنفخ صمم ليكون مساحة لسرد القصص، وقد تم نصبه بمساعدة أحد المديرين التنفيذيين السابقين لدى متحف العلوم بلندن، وكان يتعين على المعلمين أن يركزوا في قضايا لا تثير أية إشكاليات، مثل حق الطفل بالحصول على هواء نظيف، إلا أن الحوار انتقل إلى انتهاكات النظام، حيث يحكي لنا أحد المنظمين ما جرى فيقول: “قال أحد الأطفال لدي قصة حول حقوق الإنسان، وأخذ يحكي كيف جرى اعتقاله، وتجريده من ثيابه ثم كيف أرغموه على الجلوس فوق قارورة. وكان يتعين علينا أن ننقل ما جرى للسيدة الأولى، بعد ذلك علمنا بأن أحدهم طرد من عمله في أحد فروع الأمن”.

كان الاستشاريون الأجانب لدى الأمانة السورية يعيشون في فقاعة ذهبية بدمشق، إذ كانوا يطلبون وجبات السوتشي من قسم خدمة الغرف، ويحصلون على رواتب كبيرة لقاء ثرثرتهم وهذرهم بشأن بناء المقدرات. وعن ذلك يخبرنا سمير العيطة الذي عمل مستشاراً لدى وزارة المالية فيقول: “كانت الكثير من القرى تفتقر إلى شبكة صرف صحي ملائمة وإلى الكهرباء، ثم أتت هي ومستشاروها وأخذوا يتحدثون عن الريادة والمجتمع المدني، والتنمية المستدامة، والتدريب على صناعة الأجبان.. إذ اعتقدت أسماء بأن الأمانة السورية بوسعها أن تنقذ كل شيء، إلا أنها لم تكن سوى مجموعة تضم أغبياء يتحدثون الإنجليزية وتعود أصولهم إلى فلاحين فقراء”.

بل إن بعض الموظفين شكوا في أن تكون هذه الأمانة مجرد وسيلة اتخذتها أسماء لتعظيم نفسها، إذ كان يتعين على المستشارين أن ينادوها بلقب: “سعادتكم” وأن ينتصبوا واقفين عند دخولها إلى القاعة. ويرى أحد من عملوا لديها في السابق بأن أسماء التزمت حقاً بتحرير سوريا، إلا أن البقية لم يقتنعوا بذلك، إذ يقول سفير دولة غربية شغل منصبه في دمشق في ذلك الحين: “هل كان ذلك حقيقياً؟ هذا هو السؤال الذي سألته لنفسي”.

ومن بين من استفادوا كثيراً من صعود أسماء والدها فواز الأخرس، إذ بعد زواج ابنته من بشار بفترة قصيرة، أسس فواز الجمعية البريطانية السورية، وهي منظمة مقرها في لندن أخذت تحشد الدعم السياسي والمالي لسوريا. وأخذ هذا الرجل ينسق أنشطة تلك الجمعية مع منظمة أسماء، بهدف استقطاب جمهور الأثرياء السوريين.

لم يخف فواز الأخرس قربه من السلطة، فقد كان من عادته أن يفتتح أي خطاب يلقيه بالقول: “بوصفي عم الرئيس…”، وعن ذلك يخبرنا مدير الاتصالات لدى الحكومة السورية في لندن يحيى العريضي فيقول: “كان السفير السوري يبدو مجرد عامل أو مساعد نادل مقارنة بوالد أسماء”. ويقال إنه حتى رئيس الوزراء السوري كان يطلب من والد أسماء أن ينقل رسائل إلى بشار.

   اشتهر والد أسماء هذا بهوسه بالمال منذ أن كان طبيب أمراض قلبية لدى مشفى خاص في كينسينغتون، إذ يخبرنا المرضى عنه أنه كان يطلب منهم دفع مبالغ نقدية سلفاً. في حين يشير المدافعون عنه إلى أنه ظل يقطن البيت المتواضع شبه المنعزل ذاته منذ عقود، ذلك المنزل القريب من شارع مزدحم في غربي لندن، والذي نمت فيه الأعشاب الخبيثة وتخللت حجارة الرصف في الحديقة الأمامية، كما تقشر الطلاء الذي يغطي شرفته، إلا أن التاريخ الطويل مع السياسة العنيفة علّم السوريين كيف يخفون ثرواتهم.

وعندما بدأ نجم أسماء بالصعود، أخذت صورة سوريا على الساحة الدولية تتحسن هي أيضاً، حيث بدأ المسؤولون الأميركيون بزيارة دمشق من جديد، خاصة بعد انتخاب باراك أوباما رئيساً في عام 2008. كما انتشرت شائعات عن دعوة إلى واشنطن بقيت معلقة، في حين أبدى الفرنسيون تعاطفاً أكبر، ولهذا أخذ المصورون المتطفلون يطاردون أسرة الأسد عند زيارتها لباريس، كما أثنى الرئيس الفرنسي وعقيلته على أسماء ووصفاها بأنها: “النور المشرق في بلد تخيم عليه الظلال”.

وفي العاشر من كانون الأول لعام 2010، ألقت أسماء كلمة أمام النخبة الفرنسية التي اجتمعت في الأكاديمية الدبلوماسية الدولية بباريس، تحدثت فيها من دون أن تنظر إلى أي ورقة عن: “التغيير الذي يحدث في بلدي”. وبعد أيام قليلة على ذلك، أضرم بائع خضراوات تونسي النار بنفسه، ما أشعل فتيل الثورات في عموم شمال أفريقيا والشرق الأوسط، وتحول ذلك إلى الربيع العربي. وهكذا لم تف القوة الناعمة والكعوب العالية بالغرض لبقاء عائلة الأسد.

وبعد أول شهرين من عام 2011، أصبح المزاج العام في الشرق الأوسط متوتراً جداً، إذ بعد عقود من الجمود والقمع، اندلعت المظاهرات من تونس إلى ليبيا، ومن الجزائر إلى البحرين، ومن الأردن إلى اليمن. وتمكنت الاحتجاجات العارمة في مصر من إسقاط حسني مبارك، ذلك الديكتاتور الذي حكم البلاد قرابة 30 سنة، وبدا أنه لم يعد بوسع أحد إيقاف هذا المد الثوري.

إن وقع تلك الأحداث أطرب الكثير من السوريين، إلا أن الخوف منع كثيرين من النزول إلى الشوارع. ولكن في إحدى ليالي شهر شباط، وفي مدينة زراعية منهكة اسمها درعا تقع جنوب دمشق، قام مجموعة من التلاميذ في المدراس بكتابة عبارة: “جاك الدور يا دكتور” على أحد الجدران.

كان رئيس شعبة الأمن في تلك المدينة من أقرباء بشار، وهو بلطجي حتى بمعايير المخابرات السورية، ولهذا قام رجاله بالقبض على هؤلاء الأطفال وتعذيبهم. وعندما طالب آباؤهم بإطلاق سراحهم، عرض عليهم رئيس شعبة الأمن إنجاب المزيد من الأولاد إذا قاموا بإرسال زوجاتهم إليه، عندها تجمعت الحشود خارج مساجد درعا، وأخذت تهتف للكرامة والحرية، فما كان من قوات الأمن إلا أن فتحت النار عليهم.

لم يتضح في بداية الأمر حتى لأسماء كيف سيرد بشار على ذلك، إذ نصحه أحد الضباط القادة لديه بأن يقوم بحبس رئيس شعبة الأمن وأن يعتذر عما أريق من دماء في درعا، فقد كانت المدن الكبرى في سوريا ما تزال هادئة، لذا فإن تقديم الاعتذار على الملأ مع تجديد الوعود بالتغيير قد يبقي كل شيء على حاله.

ومن واشنطن ساعد السفير السوري بشار  على إعداد مسودة الخطاب الذي سيعلن فيه عن إصلاحات جديدة، وقد بلغ أصدقاء عائلة الأسد في الغرب نبأ ذلك الخطاب. كما بدت أسماء وكأنها تتوقع إعجاب الجماهير بهذا الخطاب، ومع تسارع وتيرة الربيع العربي، أعلنت أسماء أن النظام يدرك بأن عليه أن يتغير، وذكر أحد من عملوا لديها في السابق بأنها حاولت أن تتحدث إلى المعارضة. وفي الثلاثين من شهر آذار، ألقى بشار خطابه أمام مجلس الشعب السوري الذي لم يعدُ كونه مجرد واجهة رسمية.

وهكذا، وبخلاف التوقعات، أعلن بشار بأن: “سوريا تتعرض لمؤامرة كبيرة”، ووصف مقطع الفيديو الذي ظهرت فيه قوات الأمن وهي تفتح النار على المتظاهرين بـ”التضليل الإعلامي”، ورفض الدعوات المطالبة بالإصلاح، ووصفها بأنها مجرد ستار يخفي خلفه مخططاً أجنبياً لم تحدد أبعاده. وعن ذلك الخطاب يخبرنا أحد أعضاء مجلس الإدارة لدى أسماء (غادر البلد بعد الخطاب مباشرة) فيقول: “بدا وكأن النظام القديم هو الذي يتحدث، إذ لم ترد فيه أي كلمة عن المصالحة أو الإقرار بأن الأمور يمكن أن تتم بصورة مختلفة. إذ عندما التقيت ببشار كان يحدثنا عن الإصلاحات، بيد أنه لإحساس مدمر أن تكتشف أن كل ذلك كان مجرد خدعة”.

وبعد هذا الخطاب، زاد عدد المظاهرات وحجمها أسبوعاً بعد أسبوع، حيث أخذ المتظاهرون يجتمعون بعد أداء صلاة الجمعة. ومن ثم بدأت دورة التصعيد التي تمثلت بخروج مواكب التشييع، ثم المظاهرات، ثم العنف. وبعد مرور شهر كامل أصبح رد النظام أكثر وحشية، إذ نشر في البداية المطبلين الأغبياء، ثم القناصة، ثم المدفعية الثقيلة.

لقد ضعف نفوذ القادة من الضباط في الجيش السوري وكذلك نفوذ رؤساء الشعب الأمنية والمخابراتية وحزب البعث خلال السنوات العشر الأولى من حكم بشار. والآن عاد الجميع لينتقم، كما أن والدة بشار، أنيسة، ضغطت عليه هي أيضاً ليرد بحزم، فقد أخذت تسخر من بشار وتقول: ماذا عسى لوالدك أن يفعل في هذا الموقف؟ إذ عندما قامت انتفاضة ضد حكمه في عام 1982 قمعها حافظ بوحشية. ويخبرنا سفير فرنسي سابق كان في دمشق خلال تلك الفترة بأن هنالك من سمع بشار وهو يقول: “كان والدي على حق، فآلاف الأرواح في حماة أنعمت علينا بثلاثة عقود من الاستقرار”.

ومع وصول سوريا إلى مرحلة الفوضى انهارت القلاع التي بنتها أسماء في الهواء، فقد تم إلغاء حفل خصص لإعادة افتتاح المتحف الوطني، ولم يعد بوسع مشاريع التأهيل والتجديد الثقافية التي أطلقتها أسماء أن تبصر النور. وبعد سبع سنوات من التخطيط، بقي متحف الاكتشافات الذي كان سيقام على غرار متحف العلوم بلندن مجرد هيكل خرساني. كما انقطع التمويل، وغادر المستشارون البلد، وحذفوا الأمانة السورية من سيرتهم الذاتية، ولم يعد أحد يزور سوريا سوى المنبوذين من أمثال نيك غريفين الذي رأس حينذاك الحزب الوطني البريطاني اليميني المتطرف.

إحدى الصديقات السابقات تركت قهوة الصباح معها وهي تمسح دموعها وتقول: “كانت تلك كذبة على الدوام.. لقد تعرضت للاستغلال”.

يروي وفيق سعيد أنه توسل لبشار حتى يتابع نهجه المعتدل، حيث قال له: “إنهم يحبونك ويحبون زوجتك، فأنت لست كمبارك، لذا لا تضيعوا هذه الفرصة التي ستجعل منكم أعظم قائد في العالم العربي. امنحهم فقط بعض الحقوق، وشيئاً من الكرامة، وعندها سيحبونك للأبد”. غير أن نهج بشار كان مرسوماً من قبل، ففي خطابه الثاني الذي ألقاه في شهر حزيران، شبه المتظاهرين بالجراثيم، ليبدأ بذلك فصل قاتم جديد من تاريخ سوريا.

في شباط من عام 2012، بعد مرور عام على بداية الربيع العربي، أخذت الفرقة الرابعة مدرعات، بقيادة ماهر شقيق بشار، بتجريب مدفعيتها على حمص، تلك المدينة التي تقع في المنطقة الغربية بسوريا والتي كبر والدا أسماء فيها وترعرعا. في تلك الأثناء، كانت الاحتجاجات قد تصاعدت وتحولت إلى عصيان مسلح، كما أخذ الجنود ينشقون عن الجيش وينضمون إلى الثوار، بعد مقتل نحو سبعة آلاف مدني في عموم البلاد.

ومع هدير الدبابات التي توجهت نحو مدينتها الأم، أرسلت أسماء رسالة عبر البريد الإلكتروني إلى إحدى صديقاتها سألتها فيها: “هل لفت نظرك أي شيء؟” إذ كانت تلك الصديقة توافيها بمعلومات بشأن مجموعة حصرية تضم أحذية ذات كعب عال من ماركة كريستيان لوبوتان. أصبح ظهور أسماء في الإعلام نادراً منذ أن بدأت الاحتجاجات، وهذا ما أثار الكثير من التكهنات: فهل كانت حبيسة ظروفها، أو أنها تدعم زوجها فيما يفعله، أو لعلها هربت خارج البلاد؟.

يخبرنا من تحدثوا إليها بشكل خاص خلال الأيام الأولى للثورة بأنها التزمت بالرسمية بشكل صارم، إذ كانت تصف الثورة بأنها مؤامرة خارجية. إحدى الصديقات السابقات تركت قهوة الصباح معها وهي تمسح دموعها وتقول: “كانت تلك كذبة على الدوام.. لقد تعرضت للاستغلال”. بالرغم من أن آخرين يصرون على أن أسماء خافت كثيراً عندما زادت وحشية بشار، إذ من الذي لم يرتجف خوفاً وهو يرى مصير معمر القذافي الذي شوه جسده وسحل في الشوارع بليبيا في تشرين الأول من عام 2011؟

نظرياً، كان بوسع أسماء أن تمضي إلى لندن، حيث قدمت لها عروض لتصل إلى هناك بشكل آمن، مصحوبة على ما يبدو بهدايا راقية قدمتها دول خليجية. كما أعلنت الحكومة البريطانية مراراً وتكراراً أنها لن تمنع أسماء من دخول البلاد لكونها مواطنة بريطانية، ضمن ما اعتبره بعض المراقبين بأنه دعوة حذرة لتأمين الحماية لها. بيد أن الأجواء في لندن لم تكن ترحب بها، فقد احتشد المتظاهرون أمام بيت عائلتها في آكتون ولطخوا بابه بطلاء أحمر، كما حذفت كوينز كوليدج اسمها من لوحة الشرف الخاصة بخريجاتها.

انتشرت شائعات حول مضي أسماء إلى بريطانيا فعلاً، إذ يتذكر أحد الموظفين الذين عملوا في السفارة السورية في ذلك الحين كيف أخذ المسؤولون الأمنيون يستعدون لاستقبال أو رحيل شخصية مهمة بنهاية عام 2011 (بالرغم من أن تلك الشخصية لم تكن أسماء)، في حين ذكر آخرون بأنه جرى إيقافها على يد أتباع زوجها وهي في طريقها إلى مطار دمشق، وبأنهم أخذوا منها أطفالها، ولهذا تخلت عن فكرة السفر من دونهم.

 أرسلت مصفف شعرها للتسوق في دبي

وهكذا امتنعت أسماء عن إجراء مقابلات شهوراً طويلة، فقد وصفتها صديقات سابقات لها بأنها بدت هزيلة في ظهورها النادر على الملأ ضمن مسيرة موالية للحكومة في شهر كانون الثاني من عام 2012. وفي مرحلة من المراحل انتقلت هي وأولادها للسكن في قصر العائلة الصيفي بالقرب من الساحل، بعيداً عن أصوات القصف والغازات المسيلة للدموع.

وبعد ابتعادها عن دورها ضمن الإطار العام، ركزت أسماء على ترميم وتجديد بيتها عوضاً عن ذلك، إذ خلال السنة الأولى للثورة قامت بنشر إعلان لوظيفة بستاني وأنفقت 250 ألف جنيه إسترليني على الأثاث. وللالتفاف على العقوبات، أرسلت مصفف الشعر الذي يعمل لديها ليتسوق لها من دبي، وأخذت تستخدم اسماً مستعاراً عندما تطلب أي شيء من متاجر هارودز. ولقد قام وكيل عائلة الأسد في لندن بإعداد طلبات قدمتها له أسماء لشراء ثريات، إذ كانت أسماء تشير إلى نفسها مازحة بأنها: “الديكتاتور الحقيقي” في بيت الأسد.

بيد أن إسراف أسماء في التسوق انكشف عبر مجموعة ضمت الآلاف من الرسائل الإلكترونية التي أرسلتها الدائرة المقربة من الأسد، وتحولت إلى تسريبات في عام 2012 نقلها ناشطون في المعارضة السورية لصحيفة الغارديان، بالإضافة إلى رسائل أخرى نشرتها ويكيليكس.

وقد سلطت تلك الرسائل الإلكترونية الضوء على الزواج في عائلة الأسد، إذ يرى كثيرون بأن الهدف الأول من هذا الارتباط هو تأمين مصالح كلتا العائلتين. وقد كان من المعروف عن بشار مغازلته للنساء، وتأكد ذلك الانطباع بعد تسريب عدد من رسائل العشق الإلكترونية التي وصلته من موظفات شابات لديه. بيد أن بشار وأسماء كانا يتراسلان بكل مودة. ففي الثامن والعشرين من كانون الأول لعام 2011، عندما أخذت الدبابات تدك مدينة حمص، مسقط رأس والدي أسماء، كتبت أسماء لبشار: “إذا كنا قويين معاً، فسنتغلب على هذا معاً… أحبك”، ولم يتضح في هذه الرسالة ما إذا كانت العقبات التي يتعين عليهما التغلب عليها تتمثل في سوريا أو تمثل زواجهما.

وبعد مرور بضعة أيام على ذلك، أرسلت لحبيبها البطة، وهو اسم الدلع الخاص بزوجها، فرد عليها بقلب، فما كان منها إلا أن ردت عليه بالقول: “أحياناً في الليل، عندما أنظر إلى السماء، وأبدأ بالتفكير بك، أسأل نفسي: لماذا؟ لماذا أحبك؟ أفكر في سري وأبتسم، لأني أعرف أن القائمة ستمتد لأميال وأميال”. وفي شباط من عام 2012، بدا بشار كمن يقدم اعتذاراً مبطناً عن العبث الذي مارسه مع غيرها من النساء، وذلك عندما أرسل إليها أغنية شعبية غربية مع كلماتها التي تقول: “حولت حياتي إلى فوضى/ فالشخص الذي آلت إليه حالي أخيراً/ ليس بالشخص الذي أطمح أن أكونه”.

بعد هذا بفترة قصيرة، قامت أسماء بأول تصريح رسمي لها منذ بداية الثورة، ذكرت فيه بأن: “الرئيس هو رئيس سوريا بأكملها، وليس رئيس فرقة من السوريين، والسيدة الأولى تدعمه في هذا الدور الذي اضطلع به” أي أنها تقف بجانب زوجها.

 وإذا صدقت مقولة المعارضين، فإن أسماء تفاوضت مع زوجها في أمر عودتها إلى الحياة العامة بمساعدة أبيها، وذلك ضمن عملية المصالحة معه. ومنذ ذلك الحين أصبحت شريكته في الرئاسة، ففي صيف عام 2012، هربت بشرى، شقيقة بشار، إلى دبي بعد مقتل زوجها في تفجير، أعلن الثوار مسؤوليتهم عنه، إلا أنه كان أبعد من القدرات والإمكانات التي أبدوها بكثير. فقد كانت بشرى وزوجها يمثلان أكبر مصدرين للمشاعر المعادية لأسماء ضمن الدائرة المقربة، ولهذا يعتقد كثيرون بأن عملية الاغتيال تمت على يد أحد من داخل النظام.

وخلال السنة التالية، تحسنت حظوظ بشار، حيث منع الثوار من التقدم، وأخرجهم من معقلهم في حمص. إلا أن بعض القوات المناهضة للنظام ظلت تسيطر على جزء من ريف دمشق، وأخذوا يمطرون مركز المدينة بالقذائف، لكنهم لم يتمكنوا من الإطاحة بالأسد.

ومع استمرار الحرب، أصبح بشار أشد قسوة، إذ يتذكر أحد الدبلوماسيين الغربيين التصعيد البطيء للعنف، ويشمل ذلك الاستعانة بالمدفعية لاستهداف المدنيين، ثم الغارات الجوية، ثم البراميل المتفجرة، فيقول: “سيستخدمونها مرة… وسيقوم ضدهم احتجاج عارم، لكنه لن يصل إلى درجة التدخل الدولي… ولهذا سيتخلون عنها، وسيعود الوضع إلى طبيعته من جديد”. وهكذا زاد استنكار الدول وشجبها لجرائم بشار، إلا أن خنق سوريا بالتدريج، بدلاً من شن هجوم شامل عليها، ساعد في إحباط التدخل الدولي.

ففي 21 آب من عام 2013، ظهرت مقاطع فيديو جديدة لأشخاص بريف دمشق حيث يسيطر الثوار وقد ظهرت فقاقيع الزبد على أنوفهم وأفواههم، كما أخذت أطرافهم تهتز بتشنجات، وهكذا قتل المئات في تلك الهجمة. ثم ظهر تحقيق أممي ليؤكد فيما بعد بأن هؤلاء قتلوا بغاز السارين وهو غاز أعصاب سام. وبأن تلك كانت أسوأ هجمة بالأسلحة الكيمياوية منذ أن قام صدام حسين بتسميم الكرد بالغاز في حلبجة عام 1988.

وفي اليوم التالي، بعدما استوعب العالم ما جرى من خلال تلك الصور، نشرت صور على فيس بوك لتسرد ضمن تسلسل زمني الأنشطة الرسمية للسيدة الأولى بتفاصيلها الدقيقة، حيث ظهرت في إحدى الصور هي وزوجها جالسين في شرفة محاطة بالزهور كتب تحتها: “الحب هو بلد يقوده أسد داس المؤامرات تحت قدميه، وسيدة أولى كرست نفسها لبلدها”، فعلق أحد المستخدمين على تلك الصورة بالقول: “ألا تخجلون من أنفسكم؟ لقد ذبح شعبكم وأنت تراقبون ما يجري فقط، والأنكى من كل هذا أنكم تطلبون الأحذية عبر الشابكة”.

من الصعب حساب درجة الدمار الذي حل بسوريا على مدار السنوات اللاحقة. ففي عام 2014، استغل تنظيم الدولة الإسلامية، وهي مجموعة سنية متطرفة، حالة الفوضى ليؤسس ما عرف باسم دولة الخلافة التي امتدت من سوريا إلى العراق، وبذلك شكلت شراسة هذا التنظيم على المستوى الطائفي تهديداً كبيراً لقوات بشار، كما أضعفت في الوقت ذاته الدعم المقدم لمعارضيه، وبرر ظهور هذا التنظيم دعم كل من إيران وروسيا لبشار.

التخلي عن فساتين شانيل والأحذية ذات الكعب العالي

وصلت الحرب إلى كل بقعة في سوريا، وبالرغم من استرجاع بشار لحلب في عام 2016، والتي تعد آخر مدينة كبيرة بقيت خارج سيطرته، استمر في رمي القنابل على شعبه، وهكذا تحولت نصف مدن سوريا وقراها إلى ركام. كما كفت الأمم المتحدة عن عد الموتى في تلك الحرب في عام 2016، وذلك عندما وصل العدد تقريباً إلى نصف مليون ضحية، فضلاً عن 10 ملايين سوري تحولوا إلى لاجئين ونازحين.

عندئذ لم تعد فساتين شانيل والأحذية ذات الكعب العالي مناسبة للسير فوق الدمار والركام الذي خلفته الحرب في سوريا، لذا أصبح واقع سوريا الجديد يتطلب وجود أسماء أخرى. ولهذا تم التخلي عن جميع تلك الأحذية ذات الكعب العالي، وجميع أنواع طلاء الأظافر، وجميع تلك السترات، وجميع تلك المجوهرات، لتحل محلها أحذية بلا كعب، وقمصان وسراويل عادية تكشف عن ذراعي أسماء الهزيلتين، وبنيتها الضئيلة. وعندما توفيت أنيسة والدة بشار في شباط عام 2016، تخلصت أسماء من ألد أعدائها، إلا أن التغير الأكبر بالنسبة لها تحول إلى محنة متعبة على المستوى الشخصي.

ففي عام 2018 شخص مرض سرطان الثدي لدى أسماء، إلا أن المرض لم يقعدها عن إدارة أمورها بعناية وتلميع صورتها أمام العامة، إلى جانب التأكيد لكل الناس بأنها بقيت في سوريا وتلقت فيها العلاج. وقد قام الإعلام الرسمي وكذلك حسابات رئاسة الجمهورية على وسائل التواصل الاجتماعي بتوثيق تفاصيل صراعها مع المرض، كما تم تصويرها وهي جالسة على كرسي متحرك عند دخولها إلى غرفة العمليات.

وعندما تساقط شعرها، انتشرت لها صور وهي ترتدي أغطية رأس أنيقة وعصرية، لتستعرض بها ضعفها وقوتها في آن معاً، ضمن صورة لا يمكن لأحد أن يدحضها حول نضال زوجها ضد التمرد في بلاده. وفي إحدى المقابلات بدأت محاورتها الحديث بالقول: “مبروك انتصارك على السرطان”، لترد أسماء: “شكراً، وآمل أن نحتفل قريباً بانتصار سوريا”.

وحتى قبل أن تستعيد عافيتها بشكل كامل، قام إعلام النظام بتصوير أسماء على أنها تشاطر سوريا أحزانها، إذ ظهرت وهي تطرق على أبواب الناس في القرى النائية الفقيرة وتعانق أمهات القتلىاللواتي فوجئن بقدومها لتقدم لهن الصدقات تصحبها طواقم التصوير والكاميرات.

يذكر أن أسماء بذلت جهداً كبيراً لتخفي جنسيتها البريطانية، فقد سعت لتطوير لغتها العربية إلى درجة لم يعد بوسع أي سوري أن يميز أي لكنة إنجليزية فيها. كما تجاهلت دعوة الإعلام الغربي لإجراء مقابلات معها، فلم تعد تقبل بالظهور إلا لدى المحطات الروسية أو المحلية. وبالرغم من أن أسماء أدارت ظهرها للغرب، فإنها استمرت بالتواصل مع الجهات المانحة الدولية. فقد انقطع مورد دخل منظمتها الخيرية، أي الأمانة السورية، بعد فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على سوريا في عام 2012. واليوم، أصبحت المساعدات الإنسانية الدولية تتدفق على سوريا لدعم السوريين الذين دمرتهم الحرب، والكثير من تلك الأموال أصبحت تصل عبر أسماء.

إذ بالنسبة لوكالات الأمم المتحدة التي تسعى لتقديم المساعدات في المناطق التي يسيطر عليها النظام، أصبحت الأمانة طرفاً محاوراً لا يقدر بثمن، وذلك بفضل كادرها الذي يتحدث الإنجليزية والمطلع على القوانين الدولية. فضلاً عن قدرة أسماء على فتح الأبواب المغلقة ونقاط التفتيش أيضاً. وبحلول عام 2017، أصبح المزيد من الأموال التي ترسلها الأمم المتحدة تمر عبر الأمانة التي فاقت في ذلك أي منظمة سورية أخرى.

فمن عادة الأمم المتحدة أن تتعامل مع نظراء فاسدين ومتوحشين، إذ تلك هي الطريقة الوحيدة لتسليم المساعدات في كثير من البلدان. بيد أن الموظفين القدامى لدى الأمم المتحدة صعقهم مدى تعاون منظمتهم مع المنظمات السورية التابعة للنظام. إذ بين عامي 2016-2019 وصلت إلى الأمانة السورية المزيد من الأموال التي ترسلها وكالات الأمم المتحدة كل عام (تبرعت وكالة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة وحدها بمبلغ 6.5 مليون دولار أميركي خلال الأشهر الخمسة الأولى من عام 2018). وكان لدى هذه الأمانة نحو 1500 موظف حتى عام 2020، وقد تضاعف هذا العدد عشرة أضعاف خلال السنوات العشر، بالإضافة إلى وجود خمسة آلاف متطوع تابعين لهذه الأمانة.

وبوصفها رئيسة الأمانة السورية، فقد جنت أسماء ما هو أكثر من مجرد ثروة، إذ عبر استقطابها للمساعدات الأممية، طورت أسماء شبكة محسوبيات واسعة شملت أمراء حرب سوريين. فقد وردت أنباء بشأن الأشخاص الذين أعربوا عن امتنانهم لحمايتها لهم ولإحسانها عليهم والذي أتى على شكل حقائب مملوءة بالنقود تم تسليمها للمنظمات المرتبطة بها.

تربحت أسماء من اقتصاد الحرب واستفادت منها بشكل مباشر، فقد حصل مشروع مرتبط بها على عقد مع الحكومة لإدارة دفعات البطاقات الذكية. كما أطلقت شبكة مشغلة للهواتف النقالة حملت اسم إيماتيل، تيمناً باسمها عندما كانت طفلة، إلا أن هذه الشركة سجلت باسم خضر علي طاهر، الذي يصفه أحد رجال الأعمال بأنه: “واجهة أسماء في كل شيء”.

ولقد تعاظم نفوذ عائلة أسماء في الاقتصاد السوري، إذ ذكرت مواقع إخبارية سورية (بعضها مرتبط بالمعارضة) بأن شقيقها فراس وابن خالتها مهند دباغ، يديران بشكل فعلي شركة البطاقات الذكية لصالحها. ووصف تقرير نشر أخيراً لموظف سابق في السفارة الأميركية بدمشق طريف الأخرس، وهو أحد أبناء عمومة أسماء، بأنه أحد: “أبرز الشخصيات الاقتصادية لدى النظام”. وفي شهر كانون الأول، استهدفت الحكومة الأميركية عائلة الأخرس بعقوباتها.

هذا ويروي متعاونون سابقون مع النظام بأن بشار سعيد لنجاح زوجته على المستوى المالي، وممتن لها لما قدمته من مساعدة، فقد أنهكه التعب بعد عقد كامل من الحرب، كما أنه ضعيف بمادة الاقتصاد، ولهذا تحولت أسماء إلى كبيرة مستشاريه الاقتصاديين، بحسب أحد أعضاء مجموعة ضغط لصالح الأسد في أوروبا.

وبحلول عام 2019، أصبح الروس يضايقون بشار ويطالبونه بتسديد ديون سوريا، كما شددت أميركا عقوباتها عليه. وأصبحت الحكومة في سوريا بحاجة ماسة إلى المال، ولهذا بحثت عائلة الأسد عن هدف يؤمن لها كل ذلك. على مدار عقود من الزمان، ظل رامي مخلوف ابن خال بشار يستعين بعلاقاته وما يربطه بالعائلة الحاكمة لإقامة إمبراطورية من الشركات مترامية الأطراف، وليحتكر عمليات الاستيراد، ويسيطر على طرق التهريب. فكانت شركة سيريتل من بين الأصول التي حصل عليها كجائزة، وهي الشركة المشغلة الرئيسية للهواتف الخلوية في سوريا. وعلى الورق كان مخلوف مجرد رجل أعمال ناجح، أما عملياً فقد كان يتصرف كالمدير التنفيذي لسوريا، إذ ورد بأن بوسعه طرد وزير من منصبه بمكالمة هاتفية واحدة.

ولكن بوفاة أنيسة، خسر رامي من كان يحميه، فاستولت الأمانة السورية على الجمعية الخيرية التي استعان بها رامي لكسب تأييد العلويين وتعاطفهم في معاقلهم. بيد أن الحكومة وضعت سيريتل تحت الحراسة القضائية، كما تم تجميد حسابات رامي المصرفية، وتم تعيين أشخاص تابعين لأسماء في مجالس الإدارة ضمن مشاريعه وشركاته.

ورداً على كل هذا، حاول رامي تحطيم أسماء، فقد نشر في أيار من عام 2020 فيديو له عبر فيس بوك اتهم فيه: “جماعة من فوق” بالتآمر ضده. وفي الوقت ذاته، نشر الإعلام الروسي تقارير استشهد فيها بما أوردته بعض المصادر العربية بشأن قيام بشار بإنفاق مبلغ 30 مليون دولار أميركي على لوحة زيتية للفنان ديفيد هوكني اشتراها من أجل زوجته (لكن القصة لم تكن صحيحة)، ولم يجد كل ذلك أي نفع. وهكذا ظل رامي قيد الإقامة الجبرية الجزئية في بيته، وانتشرت الأقاويل والشائعات حول إبقائه على قيد الحياة فقط لأن لديه كلمات السر وسندات الأصول الخارجية التي تعادل قيمتها عشرة مليارات دولار أميركي.

تابعت أسماء عمليات الدمج والاستحواذ على عجل، فوضعت ثاني أكبر شركة للهواتف النقالة تحت الحراسة القضائية هي أيضاً، وخلال الشهر الماضي تم تعيين أعوان لأسماء في مجلس إدارة تلك الشركة. كما أصبح لشركة إيماتيل للهواتف الخلوية التي تحمل اسمها فروعاً الآن في مختلف أرجاء سوريا (حتى في المناطق التي لا يسيطر عليها زوجها).

بيد أن نجاح أسماء على الصعيد المالي والدسائس والمؤامرات التي حاكتها بلا أي رحمة أو شفقة قد حطما صورتها التي رسمتها وهذبتها بعناية، وحول ذلك يقول أحد رجال الأعمال السوريين: “البعض لا يزال يحبها، ويضعون صورتها على صفحاتهم في إنستغرام، إلا أن الغالبية أصبحت اليوم تنظر إليها على أنها شخصية جشعة ذات وجهين”. إلا أن أحداً لم يعد يتهم أسماء اليوم بعدم تمكنها من فهم الطريقة التي تدار بها سوريا.

 في أواخر العام المنصرم، لاحظ أهالي الحي الدمشقي الذي تقطن فيه أسماء تغيراً غريباً في المشهد. إذ أضيف إلى التمثال القديم الذي يمجد أحد أرفع الضباط السوريين تمثال جديد، وهو عبارة عن شكل منحوت لرأس حصان، وذلك بتوجيه من شركاء أسماء في أعمالها والعاملين لديها، وهذا ما دفع الأهالي للشكوى من الإسراف والتبذير، وبحسب تقارير نشرت في صحف خليجية، فإن السلطات قامت بإزالة رأس الحصان، وبعد مرور ساعات على ذلك، عاد الرأس إلى الموقع ذاته، في رسالة واضحة مفادها أن أسماء هي من يتخذ القرارات المهمة في سوريا بعد الحرب.

أصبح الإعلام الرسمي يخصص ساعات أطول لسيدة الياسمين، كما أخذت ملصقات تحمل صورتها تنتشر في مدينتها حمص لتغطي أبنية سكنية بأكملها. وبدأ الوزراء بعرض صورتها في مكاتبهم إلى جانب صورة بشار، في التفاتة غريبة لسيدة أولى في سوريا.

إذ بعد كف يد رامي مخلوف، ورحيل شقيقة بشار ووفاة أمه، لم يعد أمام أسماء سوى القليل من المنافسين الكبار ضمن الدائرة المقربة. كما أصبح أقرب مستشاريها يشغلون أرفع المناصب في مكتب الرئيس، وعنها يخبرنا رجل أعمال يسافر بين دمشق وأوروبا، فيقول: “إنها تسيطر على كل من يتم تعيينهم في القصر. كما بوسعها أن ترشح من تريد لأي منصب”.

تتمنى أن تصبح الرئيسة

في دمشق كما في العواصم الأجنبية، يطلق السوريون وبكل صراحة تكهناتهم حول الطموحات السياسية التي تضمرها أسماء ورغبتها في الصعود إلى القمة. لذا في حال أصبح بشار في موقف لا يمكن الدفاع عنه من خلاله، فهل يمكن لأسماء إذا شغلت منصب الرئاسة أن تداهن الغالبية السنية في سوريا مع الحفاظ على الاستمرارية؟ وقد انتشرت شائعات أيضاً بشأن قيام أحد أفراد تلك العائلة بالاجتماع بمسؤولين أميركيين سعياً لدعم هذا المخطط، وتعقيباً على ذلك يقول دبلوماسي سوري سابق: “يفكر كل من بشار وأسماء بهذا، فهي تتمنى أن تصبح رئيسة وكلاهما يدرس تلك الفكرة بوصفها حلاً ثورياً لإنقاذ النظام”.

هذا وقد تقوم بريطانيا بدعم طموحات أسماء والتعبير عن سعادتها لإضافة همزة وصل بريطانية لتشكيلة حكام الشرق الأوسط، إذ بالرغم من التنديد الصارخ ضد عائلة الأسد، لم تقم الحكومة البريطانية بتجريد أسماء من جنسيتها، كما فعلت مع شاميما بيغوم، تلك الفتاة التي كانت تعيش شرقي لندن ثم سافرت إلى سوريا لتنضم إلى تنظيم الدولة في عام 2015، وهي ما تزال مراهقة.

كما أن المتشددين من العلويين لن يدعموا على الأرجح أي محاولة تقوم بها أسماء للوصول إلى منصب الرئاسة، ولعل أشد منافسيها المحتملين لشغل هذا المنصب سيكون ماهر، الشقيق الأصغر لبشار، الذي ما يزال يقود الفرقة الرابعة مدرعات في الجيش التي يهابها الجميع. وعن ذلك يقول تاجر سوري في دبي تربطه صلات جيدة بالنظام: “لابد أن يتآمر الجيش مع الطائفة لمنع أسماء من ترشيح نفسها لمنصب الرئاسة”.

بيد أنها أصبحت تتمتع بنفوذ أكبر من أي وقت مضى، لكنها في الوقت نفسه ما تزال أكثر ضعفاً، إذ مجرد الحديث عن طموحها بالوصول إلى سدة الرئاسة قد يعرضها للخطر. وبالرغم من أن الكثير من أصدقاء أسماء وصديقاتها قد نأوا بأنفسهم عنها خلال السنوات الماضية، فإنهم ما يزالون يعبرون عن قلقهم حيال سلامتها وصحتها. فخلال سعيها للحصول على الجائزة الكبرى، يمكن لتلك الفتاة التي أتت من غربي لندن أن تتجاوز جميع الحدود التي رسمت لها في نهاية الأمر، ولذلك يقول رفيق سعيد: “إنني قلق عليها”، إلا أنه لا رجوع بعد اليوم، وقد أدركت أسماء ذلك منذ أمد بعيد.  


عن ” ذي إيكونوميست ” ، للاطلاع على الموضوع الأصلي اضغط هنا

ترجمة تلفزيون سوريا

يقول محدّثي :
لمّا تخرج الكلمة للعلن …فلا سلطة لك عليها …
كل يرميها بسهم عينه ..

 

ماهر حمصي

إبداع بلا رتوش
إشترك في القائمة البريدية