خلال عملي في الصحافة السورية لأكثر من أربعين عاماً، كان بعض الزملاء يسألني رأيي كقارئ بكتاباتهم، ولأنني لا أجيد المجاملة، كنت أقول رأيي بصراحة مما يدعو بعضهم للغضب مني، وعندما يصل غضبهم إلى درجة الانفعال، كنت أستفز محاوري بنوع من السخرية المّرة والمزاح الثقيل وأقول له : أنت لست أكثر من محرر من الدرجة العاشرة في صحيفة غير مقروءة ..!
الأن أجد نفسي مضطراً لاستعمال هذا التوصيف وعلى نطاق واسع ليشمل معظم مقالات الرأي والزوايا الصحافية في صحفنا الرسمية الثلاث، فعندما أقرأ كتاباتهم، أشعر بنوع من الغثيان للمستوى الهابط والإنشائي للخطاب الذي يعيد تكرار عباراته أكثر من مرة في المقال الواحد، ولو استعرضت بعضاً من هذه المقالات تأكيدا. لما أقول، لقام أصحابها بتقديم دعاوى قضائية ضدي أمام المحاكم بتهمة التشهير بهم!
أصبح معروفاً لدى الجميع أن صحافتنا الرسمية ومنذ نصف قرن تنطق باسم الحكومة وتخضع لتوجيهاتها، ودورها يقتصر على نشر أخبار الحكومة وتسويق سياساتها حتى لو كانت خاطئة، وضد مصالح الناس، وهذا ما يحصل دائماً، إضافة إلى غياب المبادرات التي تلجأ لها الصحافة عادة لاستعادة ثقة القارئ، وأسوق هنا مثالاً على ذلك:
في منتصف التسعينات من القرن الماضي صدر مرسوم بمنع الإعلان عن منتجات الدخان في الوسائل الإعلامية والإعلانية كافة، وفي اليوم التالي شنت وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية حملة شعواء ضد الدخان والمدخنين امتدت عدة أسابيع، واستضافت في برامجها أطباء مختصين بالصحة العامة للحديث عن أضرار التدخين والأمراض التي يمكن أن تصيب المدخن ومحيطه . ُتـرى هل كان الحديث عن أضرار الدخان يدخل في قائمة الممنوعات التي يحظر على الإعلام تناولها، هذا مثال على غياب المبادرة في الإعلام السوري، وهناك أمثلة كثيرة لامجال لذكرها الآن .! وهذا يؤكد أن هذا الإعلام لا يتحرك إلا وفق توجيهات الحكومة، كجهة مالكة لكل وسائل الإعلام، فالذي يدفع للعازف يطلب اللحن الذي يريد!!
من القراءة الأولى لأي مقال يكتشف القارئ أن ما يكتبه الصحافي العامل في إحدى الصحف الثلاث، ليس موجهاً لقارئ يمتلك عقلاً وعينين وذائقة تميز بين الغث والسمين بل هو موجه الى السلطة بهدف تملقها والتقرب منها، وتقديم الولاء، بهدف الحصول على مكاسب مادية أو التطلع الى منصب يطمح الى الوصول إليه، والمزاودة على صاحبه لإزاحته والجلوس في مكانه .!!
عندما ينصرف قراء أي صحيفة عنها، فهو دليل وانذار بموت هذه الصحيفة، ولو كانت موازنات هذه الصحف ونفقاتها تتم من قبل القطاع الخاص، لتم إيقافها عن الصدور منذ سنوات، ولأن الدولة هي التي تمّول هذه الصحف من الموازنة العامة التي تتم جبايتها من دافعي الضرائب فهي بالتالي. تتحمل نفقات باهظة بالصرف على هذه الصحف التي يتمتع أصحاب القرار فيها بامتيازات مادية كبيرة، وسيارات فارهة، ومكاتب تنافس مكاتب الوزراء بفخامتها، إضافة إلى مهمات سفر داخلية وخارجية مفتوحة، والمحصلة أداء هزيل، ومستوى هابط ومتدنٍ، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، ومن اختار هذه (المواهب والمدراء ورؤساء التحرير) كان يعتمد على ولائها لا على كفاءاتها، لذا نشاهد كثيراً منهم هبطوا على مناصبهم (بالباراشوت)، وأحاطوا أنفسهم ببعض الانتهازيين والمنافقين الذين يزينون لهم أخطاءهم ويستغلون ضعف خبرتهم لتحقيق مصالحهم الشخصية !!
هذه الأخطاء أدت الى هبوط معدلات التوزيع الى أدنى مستوياتها، كما تشير الأرقام المتسربة من أوساط الصحف نفسها، حيث تتسلم مؤسسة التوزيع حوالي 4000نسخة من صحيفة ‘البعث’، و16000نسخة من صحيفة ‘تشرين’، و24000نسخة من صحيفة ‘الثورة’، علماً أن الصحيفة تنشر على إحدى صفحاتها الداخلية إشارة منذ عدة سنوات تفيد بأنها تطبع 71500نسخة، مع أنها تعاني ومنذ سنوات من مشاكل طباعية سببها انتهاء صلاحية آلة الطباعة، مما يضطر إدارة الصحيفة لطباعتها في صحيفة البعث، إضافة الى المشاكل الناجمة عن القرار الكارثي الذي صدر منذ سنوات بفصل مطابع الصحف عنها والحاقها بوزارة التربية!! .
الصحافة الرسمية وصلت إلى طريق مسدود، وهي في مأزق حقيقي، وتحتاج الى إعادة النظر بالسياسات التحريرية التي تعتمدها، ومنحها حرية تداول المعلومات والحقائق التي يبحث عنها قارئ انصرف عنها ليقرأ أخبار وطنه في وسائل اعلام خارجية أكثر مصداقية من إعلامه !!
حاشية : بين صحافي كاذب ومنافق، وصحافي يخترق الحدود للبحث عن الحقيقة ليقدمها إلى قرائه، ويغامر بحياته ويموت، مسافة أطول من محيط الكرة الأرضية!!