بينما تتوجه الأنظار نحو ملف عودة اللاجئين السوريين إلى بلدهم وتهيئة ظروف إعادة الإعمار، لا يزال هناك سوريون يبحثون بشتى الطرق عن حلول للوصول إلى مكان آمن ومستقر. مهاجرنيوز التقى بالشابة سارة، التي تمكنت من الوصول إلى فرنسا منذ أقل من أربعة أشهر، بعد أن خاضت “مغامرة إجبارية” تضمنت عبور عدة دول ومدن والافتراق عن أصدقاء بقوا عالقين في اليونان.
“طفح الكيل، كان لا بد لي الخروج من سوريا بأية طريقة”، تتنهد سارة بينما تخرج كلمات من فمها لطالما انتظرت نطقها، “أخيرا وصلت إلى فرنسا”.
الشابة التي بالكاد أتمت عامها الـ27، صممت على ترك مدينتها وبيتها بحثا عن حياة آمنة ومستقبل أفضل، فلم يكن هناك من سبيل للخروج سوى “التهريب”، حسبما قالت أثناء لقائها مهاجرنيوز في العاصمة باريس.
لم يمض على وجودها في فرنسا سوى بضعة أشهر، لكن قبل الوصول إلى القارة العجوز كان على سارة خوض “مغامرة إجبارية” وعبور دول ومدن عدة، والافتراق عن أصدقاء بقوا عالقين في اليونان.
مظاهرات السويداء “بارقة أمل”
“كنت أعيش في ضواحي مدينة دمشق، لكنني كنت أشعر وكأنني في سجن مفتوح. لا يحق لنا انتقاد أي شيء يتعلق بوضع البلد، وهذا عدا عن الظروف المعيشية المتردية وانشغالنا بأساسيات الحياة وبديهيات الأمور.. متى تتوفر الكهرباء لكي أشحن هاتفي؟ هل هناك مياه ساخنة للاستحمام؟ هل يتواجد الخبز في الأسواق اليوم أم علينا تدبر وضعنا وابتكار حل بديل؟ كلها أسئلة يومية كانت تنهك حياتنا”.
بعد أن باءت محاولات الشابة للحصول على تأشيرة سفر بالفشل، بدأت البحث عن أية طريقة للخروج من سوريا، وتقول “في العام 2015 حاولت الحصول على تأشيرة سفر إلى إحدى الدول الأوروبية، وحاولت مرارا إيجاد منفذ بشتى الطرق، لكن كل ذلك كان دون جدوى”.
رغم أن فكرة السفر كانت حاضرة في ذهن سارة المتحدرة من محافظة السويداء، إلا أن بارقة أمل لمعت وجعلتها ربما تعدل عن رأيها، “في حزيران/يونيو 2020، علمتُ بخروج أول مظاهرة في مدينتي السويداء، شعرتُ بحماس شديد حينها وكأن ذلك كان بمثابة فسحة أمل وفرصة لرفع صوتنا عاليا والتخلص أخيرا من النظام الدكتاتوري”.
شاركت سارة في مظاهرات السويداء التي استمرت لبضعة أسابيع فقط، “رأيت كيف تحول الحراك في مدينتي يوما بعد يوم، وشهدت كيف انسلّ ‘الشبّيحة’ فيما بيننا. فاعتقلت السلطات أول صديق لي، وثم صديقين آخرين، هكذا حتى وصل عدد الموقوفين إلى ثمانية أشخاص، حتى أنهم أخذوا رجلا كبير السن”.
مظاهرات في محافظة السويداء تطالب برحيل بشار الأسد pic.twitter.com/a8iUDV98Cv
— Firas Faham فراس فحام (@Fr_faham) June 7, 2020
بدأ الخوف واليأس يتسلل إلى قلب سارة، وكأن ما حدث كان بمثابة “صوتا يؤكد لي أن لا أمل في هذه البلاد، ولا مفر من السفر”، حسبما تقول. ونشرت منظمة هيومن رايتش ووتش تقريرا تناولت به الانتهاكات العنيفة التي ارتكبها النظام واعتقاله تسعة أشخاص شاركوا في مظاهرات السويداء.
التهريب كان الخيار الوحيد المتاح
في أيلول/سبتمبر 2020 حان وقت الرحيل أخيرا، “حصلت الأمور بسرعة وبشكل غير متوقع، تواصل معي صديق كان أخوه في تركيا وقررنا خوض الطريق سويا إلى غازي عنتاب”. تكمل سارة مستذكرة آخر أيامها في سوريا “أخبرت أهلي بما أنوي فعله، لم تقل أمي شيئا وأبي لم يعارض، فرغم صعوبة الأمر عليهما، كانا على يقين أن بقائي ينضوي على مخاطر عديدة، لا سيما بعد أن شاركت في مظاهرات السويداء وكان وجهي واضحا في بعض الصور التي انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي”.
بدأت الرحلة أولا داخل سوريا، “مررنا بعدة مدن وصولا إلى مناطق شمال سوريا الخارجة عن سيطرة النظام. وهنا بدأت أولى تكاليف الرحلة، فكان علينا الاتفاق مع مهرب داخل سوريا يضمن لنا اجتياز الحواجز حتى بلغنا مدينة إعزاز. دفع كلا منا 500 دولار”.
ومن أجل اجتياز الحدود التركية، اتفق سارة وصديقها مع مهرب استطاع تأمين “إذن ضابط” لمجموعة من حوالي 12 شخصا، “كان علينا القفز من جدار حدودي والركض، ونجحت محاولتنا دون مشاكل لأن أحد الضباط الأتراك كان يعلم بأمرنا، وهو من جعلنا نجتاز الحدود”.
كانت أولى المدن التركية التي وصلا إليها هي كلّس، ومنها ذهبا إلى غازي عنتاب حيث بقيا بضعة أيام، ثم إلى إسطنبول للقاء شقيق صديقها، “قررنا نحن الثلاثة الذهاب إلى إزمير وعبور البحر إلى اليونان”.
رحلة بحرية طويلة.. “لم أصدق أني مررت بكل هذا”
بقي الأصدقاء الثلاثة لحوالي شهر في مدينة إزمير بانتظار “رحلة التهريب” إلى اليونان، “أقمنا في فندق رخيص في إزمير. كان كل شيء بالنسبة لنا غالي الثمن في هذه المدينة السياحية”.
بعد 27 يوما جاء موعد “الرحلة البحرية”، وضبت سارة ما استطاعت في حقيبة قماشية صغيرة كان فيها معجون أسنان، وبضعة قطع ثياب لها ولصديقيها، ومناديل معطرة، وعلكة للمضغ تساعد على التخلص من الشعور بالإعياء. “كان هذا كل ما حملته معي لرحلتي إلى أوروبا”.
استمر التنسيق والتحضير للرحلة بضعة أيام، استدعى المهرب أولا الشابين وذهبا إلى إحدى سواحل إزمير السياحية، “كانت المنطقة تعج باليخوت الخاصة والفيلات الفخمة. وكان المهرب لتجنب إثارة الشبهات يقسم المسافرين على دفعات، فكان الرجال ينزلون خفية خلال الليل ليختبئوا في الطابق السفلي لليخت، ومن ثم النساء والأطفال في اليوم التالي. كان المكان لا يتسع لأكثر من 10 أشخاص، لكن تكدس به حوالي 25 شخصا”.
وكان على سطح اليخت، المهرب القبطان وشخصين آخرين، “وكنت أنا بداية على سطح القارب معهم، فالمهرب يحرص على عدم رؤية أي أحد الأشخاص المختبئين في الأسفل. وينتقي شخصين أو ثلاثة معه ليلعبا دور السيّاح على سطح المركب. فكنت أنا أقف بملابس صيفية كأنني سائحة وألتقط صورا وهمية”.
حوالي السابعة مساء انطلق أخيرا القارب، “وبعد أن أبحرنا لحوالي 4 ساعات، أوقف القبطان المحرك، لأن اليخت كان يحمل فوق طاقته والمحرك لا يتحمل الإبحار لوقت طويل. كان الموج عالي جدا ولا أزال حتى اليوم أستطيع تذكر صوت المياه وهي تضرب خشب القارب. لم أكن أشعر بالخوف حقا، وكأن نسبة الأدرينالين ارتفعت وجعلتني لا أستوعب خطورة الموقف”.
كان هدف المجموعة الوصول إلى أثينا مباشرة، رغم أنها بعيدة عن السواحل التركية لكن ذلك كان خيارا “أكثر ضمانا”، لأن المراقبة مشددة على الجزر اليونانية وانتشرت تقارير عديدة حول قيام خفر السواحل اليوناني بصد قوارب المهاجرين وإرجاعها إلى الطرف التركي.
Unfortunately, more boats tried to cross due to good weather. Two groups of 16 and 21 people were most likely illegally deported to #Turkey by the Hellenic Coast Guard. We are awaiting more information. #refugeesGR https://t.co/YwDiLvzMeU pic.twitter.com/qbwb5oeFUs
— Aegean Boat Report (@ABoatReport) February 8, 2021
استغرقت الرحلة يوما كاملا، وكان “الوقت طويلا للغاية، فكنت أنام بعمق وأستيقظ لأجد أنه لم يمض سوى نصف ساعة. لم أصدق أني مررت بكل هذا. وكأن الحياة بعد تلك اجتياز تلك الرحلة بات لها معنى آخر”.
لأول مرة أسافر على متن طائرة
“بعد أن بلغنا إحدى المرافئ القريبة من العاصمة اليونانية، نزلنا على دفعات كي لا نثير الشبهات. وبقينا في أثينا لحوالي أسبوع لأخذ قسط من الراحة قبل إكمال الطريق”.
الخطة تقتضي على أنه بعد الوصول إلى اليونان، يؤمّن المهرب لسارة وصديقيها هوية مزورة من أجل السفر إلى بلد أوروبي. “كنا نعلم أن السفر من مطار أثينا مستحيل، فالمراقبة الأمنية هناك شديدة”.
وفقا لتعليمات المهرب ذهب السوريون الثلاثة إلى جزيرة سانتوريني المعروفة بكونها إحدى أهم الوجهات السياحية، “يا للسخرية.. كنت أحلم بزيارة تلك الجزيرة. كانت التربة هناك داكنة، شعرت وكأنني في السويداء”.
من مطار سانتوريني، فشلت محاولة السفر الأولى، “كنا نشعر بالتوتر، وانكشف أمرنا مباشرة”. وبعد حوالي أسبوع، كان على سارة إعادة التجربة مرة أخرى، “لم أنم طوال الليل. كنت أحفظ اسمي الروماني الجديد حسب الهوية المزورة”. تمكنت سارة من اجتياز حواجز التفتيش، وصعدت إلى متن الطائرة المتجهة إلى إيطاليا، “كان شعورا لا يصدق، وتلك كانت المرة الأولى التي أسافر بها على متن طائرة”.
رحلة باهظة الثمن
حطت الطائرة في مطار ميلانو، ومن هناك “حجزتُ بطاقة قطار إلى مدينة ليون الفرنسية. في كل مرة كان يمر بها شرطي بجانبي كنت أرتجف من الخوف بداخلي. لكنني تمالكت نفسي”.
“كان عليّ أن أتظاهر بأنني مهاجر شرعي”، وبالفعل تمكنت سارة من الوصول إلى فرنسا في نهاية عام 2020، وتقدمت بطلب لجوء.
كان من المفترض أن يلتحق الشابان بسارة، “لكن الأمور لم تسر بشكل جيد معهما. أنا حالفني الحظ وتمكنت من العبور لكنهما للأسف لا يزالان حتى اليوم عالقين في اليونان، وبانتظار تعليمات المهرب الذي تقاضى أجره لإيصالنا إلى فرنسا”.
كانت تلك الرحلة باهظة الثمن ودفعت سارة إجمالي 11 ألف يورو للمهربين بين سوريا وتركيا واليونان وفرنسا، “كان معي بعض المال واستدنت المبلغ الأكبر من أصدقاء لي. وصلتُ لفرنسا وأمور كثيرة تشغل بالي، فعليّ العمل لأرد المال الذي استدنته، كما أن عائلتي بحاجة للمساعدة أيضا”.
“لا أصدق أني خضت هذه الرحلة، وكأن هناك قوة لا أعلم مصدرها ساعدتني لأخرج من سوريا وأصل إلى أوروبا. من حسن حظي أن رحلتي لم تطل كثيرا لكن صديقاي كغيرهم من الكثير من السوريين يبحثان عن فرصة للوصول إلى وجهتهم وبدء حياة جديدة”.