أكثر من أربعين تجربة عدالةٍ انتقاليّة جرت في العالم خلال التاريخ المعاصر، ولعلّ ما يجمعها هو مسألتان: أوّلها الفشل؛ حيث فشلت في تحقيق العدالة لكلّ الضحايا، وفشلت في محاكمة كلّ المجرمين، كما فشلت في بناء سلّمٍ أهليٍّ مستدامٍ، وثانيها أنّ كلّ هذه التجارب كانت بقرارٍ دوليٍّ أو بقرار وتدخّل دولٍ أخرى. إضافةً إلى أنّ جميع هذه التجارب بدأت بعد انتهاء أزمة الدول صاحبة التجربة، وربّما بعد زمنٍ بعيدٍ؛ حيث تطمس الأدلّة ويكون المجرمون قد فرّوا فلا يعود لتحقيق العدالة أيّ معنى مؤثّر سوى إرضاء بعض المتضرّرين، علاوةً على أنّ تجارب العدالة الانتقاليّة في العالم كانت محدّدةً ومحدودةً ومرتبطةً بالطريقة التي تم فيها إنهاء الأزمة.
ففي حال الحلّ العسكريّ، كما حدث في الحرب العالميّة الثانية أو العراق أو أفغانستان أو يوغسلافيا السابقة، تكون العدالة الانتقاليّة عدالة المنتصر وتطبّق على المهزوم عسكريًّا، لتغدو عدالةً انتقاميّةً أكثر منها عدالة انتقاليّة.
وفي حال التوافق الدوليّ والداخليّ على إنهاء الأزمة فكان هناك طريقان: إمّا تجاهل العدالة نهائيًّا وإمّا إصدار عفوٍ شاملٍ وترك الضحايا يواجهون بؤسهم وحدهم كما حصل في لبنان وكولومبيا والمغرب ,وكمبوديا , وكان أقصى أملٍ للضحايا أن يتمكّنوا من سرد معاناتهم أو معرفة أين قضى أحبّاؤهم وأين دفنت جثثهم والاعتراف بهم كضحايا ويصبح المجرمون أبطالًا ويعاد تأهيلهم ويعودون إلى المشهد كزعماءَ سياسيّين كما حصل في لبنان وتشيلي، وربّما يمنحون جوائزَ عالميّةً كجائزة نوبل للسلام كما حصل في كولومبيا وميانمار .
أو تُطبّق عدالةٌ انتقائيّةٌ بحيث يُحاكم عددٌ قليلٌ ومحدّدٌ من المجرمين كما حصل في الأرجنتين وراوندا ومصر، ويفلت بقيّة المجرمين بل أكثريّتهم ويُترك الضحايا كذلك يحملون مآسيهم داخلهم.
وبمعنى عامّ فإنّ طريقة إنهاء الأزمات في تلك الدول, كانت هي المحدّد الأوّل لسيرورة ومآل تجربة العدالة الانتقاليّة في هذه البلدان.
إنّ أغلاق طرق العدالة المألوفة في مثل حالة الوضع السوريّ كمحكمة الجنايات الدوليّة أو إنشاء محكمةٍ خاصّةٍ بالوضع السوريّ بسبب عدم انضمام سورية إلى اتّفاق إنشاء المحكمة واستخدام روسيا والصين الفيتو أربع مرّاتٍ لمنع هذه الطريق. كما أنّ إغلاق طرق الحلول السياسيّة الاتفاقيّة لإنهاء مأساة الشعب السوريّ وانعدام أيّ فرصةٍ لحلٍّ سياسيٍّ يحقّق الحدّ الأدنى من العدالة للضحايا ألهم الضحايا وممثليهم لاستخدام الصلاحيّة العالميّة المتوفّرة في عددٍ من البلدان الأوروبيّة، وأقدمها ألمانيا، للبدء بإجراءات العدالة وهو طريقٌ لم يسلك سابقًا إلّا بشكلٍ بسيطٍ، ولم يكن هناك نتائج تذكر في هذا المضمار.
ما أُنجز حتّى الآن في تجربة العدالة الانتقاليّة في سورية:
- تقديم أربعة ملفّاتٍ في ألمانيا وملفٍّ واحدٍ في النمسا وملفٍّ في السويد وملفٍّ في النروج تستهدف نحو 60 مسؤولًا عالي المستوى من الأجهزة الأمنيّة والعسكريّة، بما فيهم بشار الأسد، متّهمين بجرائم ضدّ الانسانيّة، بما فيها الاعتقال التعسفيّ والإخفاء القسريّ والتعذيب والقتل تحت التعذيب وإخفاء الجثث في مقابرَ جماعيّةٍ مجهولةٍ بشكل ممنهج وواسع النظاق.
كما تم فتح ملف أمام المدعي العام بفرنسا بحق المسؤولين عن التعذيب في إدارة الأمن الجوي بسوريا بسبب قتل مواطنين يحملان الجنسيتين السورية والفرنسية تحت التعذيب في المعتقل وصدرت مذكّرات توقيفٍ، حسب الصلاحيّة العالميّة التي تمتاز بها قوانين هذه الدول، بحقّ عددٍ من المتّهمين رغم أنّهم لا يزالون في سورية ولم يغادروها. وما سرّب من مذكرات التوقيف هذه مذكّرات توقيف بحقّ علي مملوك رئيس مكتب الأمن الوطنيّ، وجميل حسن رئيس إدارة المخابرات الجوّيّة، وعبد السلام محمود رئيس فرع التحقيق في إدارة المخابرات الجوّيّة. - تمّ توقيف ضابطَي أمنٍ في ألمانيا، أحدهما برتبة عميد كان مسؤولًا عن قسم التحقيق بأهمّ فرع أمن دولة في سورية (الفرع 251 أو ما يعرف بفرع الخطيب)، وآخر برتبة صفّ ضابطٍ في الفرع نفسه, وابتدأت محكمةٌ علنيّةٌ في مدينة “كوبلنز” الألمانيّة في تاريخ 23 نيسان/ أبريل 2020.
- وفي ألمانيا أيضًا تمّ توقيف طبيبٍ كان يقوم بتعذيب المعتقلين في مشفى حمص العسكريّ.
- وهناك عددٌ كبيرٌ من التحقيقات المفتوحة في ألمانيا وفرنسا والسويد وهولندا والنمسا وسويسرا والنروج ضدّ متّهمين بجرائم حرب أو جرائم ضدّ الإنسانيّة ينتمون إلى النظام السوريّ موجودين في أوروبا كلاجئين أو مقيمين, وسلسلة التوقيف لا تزال مفتوحةً.
- في فرنسا تمّ توقيف إسلام علوش الناطق الرسميّ باسم جيش الإسلام في غوطة دمشق.
- هناك أكثر من 25 ملفّ محاكماتٍ مفتوحة في ألمانيا بحقّ منتمين إلى منظّماتٍ مصنّفةٍ إرهابيّة كـ”داعش” و”جبهة النصرة”, ومنظّمات مسلّحة أخرى بتهم ارتكاب جرائم حرب، وصدرت أحكامٌ بالسجن بحقّ عددٍ منهم.
- هناك أكثر من 80 ملفّ تحقيقٍ مفتوحًا بحقّ متّهمين ينتمون إلى منظّماتٍ مسلّحةٍ أو إرهابية في سورية.
ماذا حقّقت تجربة العدالة الانتقاليّة في سورية ؟
حقّقت تجربة العدالة الانتقاليّة في سورية نقلةً نوعيّةً ومميّزةً في تاريخ العدالة الانتقاليّة العالميّ، إن لم نقل إنّها كانت نقطة تحوّلٍ كبيرةً في مفهوم تحقيق العدالة الانتقاليّة:
- لأوّل مرّةٍ في تاريخ العدالة الانتقاليّة تبدأ إجراءات العدالة قبل انتهاء الأزمة بل في خضمّها، حيث لا تزال الجرائم مستمرّةً والمجرمون يرتكبون المزيد منها، والأدلّة متوفّرة بكثرةٍ ولم يطوِها النسيان أو الفقدان.
- لأوّل مرّةٍ في تاريخ العدالة الانتقاليّة تبدأ إجراءات العدالة الانتقاليّة بإرادة وقرار الضحايا أنفسهم وليس بإرادةٍ دوليّةٍ أو إرادة دولٍ, لذا ينحسر، إن لم نقل ينعدم، تأثير السياسة على إجراءات العدالة وسيرها، بل ربّما، وعلى الأغلب، فإنّ إجراءات العدالة تتمّ من دون رضا السياسيّين ومخالفة لرغباتهم.
- لأوّل مرّةٍ في تاريخ العدالة الانتقاليّة تفرض العدالة نفسها على السياسة والسياسيّين وعلى الحلول المتوقّعة للأزمة وتضع الحدود, بينما كان السياسيّون في التجارب السابقة، وفي بعض الأحيان المجرمون أنفسهم، هم من يضعون حدود العدالة ودورها ومسيرتها.
- لأوّل مرّةٍ في تاريخ العدالة الانتقاليّة تصدر مذكّرات توقيفٍ دوليّة عبر “الأنتربول” عن قضاءٍ وطنيٍّ بصلاحيّةٍ عالميّةٍ بحقّ مجرمين لا يزالون على رأس عملهم بصفةٍ رسميّةٍ ضمن أعلى هرم السلطة العسكريّة والأمنيّة.
- لأوّل مرّةٍ في تاريخ العدالة الانتقاليّة تبدأ محاكمةٌ علنيّةٌ لمتّهمين كبار بجرائم ضدّ الإنسانيّة قبل أن تجفَّ دماء الضحايا عن أيديهم, ويحاكمون ليس بصفتهم أفرادًا مجرمين وإنّما كجزءٍ من منظومة إجرامٍ ممنهجٍ تتستّر تحت اسم دولةٍ ونظامٍ ومسؤولين شرعيّين.
تجربة العدالة الانتقاليّة في سورية نقلةً نوعيّةً ومميّزةً في تاريخ العدالة الانتقاليّة العالميّ،
وفي الواقع إنّ ما أُنجز على صعيد المحاكمات أو على صعيد تخليد الذكرى بوثائقَ أو معارضَ أو أفلامٍ أو صورٍ لم يكن ممكنًا بهذه الطريقة لولا وجود الشتات السوريّ وجهوده بذلك، ولاسيّما الأبطال الحقيقيّون من الضحايا الذين تقدّموا بشهاداتهم متجاوزين الألم الشخصيّ والخوف على أمنهم وأمن أهاليهم الذين لا يزال بعضهم في مناطق تحت سيطرة النظام، كما تجاوزوا كلّ ما يمكن أن تسبّب لهم شهاداتهم من أذى شخصيٍّ واجتماعيٍّ.
إنّ مسار العدالة الانتقاليّة مسارٌ طويلٌ ومعقّدٌ وله عدّة قنواتٍ، ومن المؤكّد أنّ البدء بإحداها لا يعني إنجازًا على صعيد القنوات الأخرى. كما أنّ محاكمة المجرمين لا يمكن أن تكون بديلًا من مسألة التعويض للضحايا وجبر الضرر وإعادة الاعتبار ولا بديلًا من مسألة إعادة هيكلة القوانين، بما يضمن عدم تكرار ارتكاب مثل هذه الجرائم مرّةً أخرى. لكنّ الأكيد أنّه لا يمكن الحديث عن عدالةٍ انتقاليّةٍ قبل أن يكون على رأسها وأوّلها محاسبة ومعاقبة المجرمين. وإنّ الاكتفاء بمسألة التعويض وبناء ذكرى ومنع التكرار فحسب لا يمكن أن تكون بأيّ حالٍ شكلًا من أشكال العدالة الانتقاليّة، ولاسيّما إذا كان المجرمون أنفسهم لا يزالون طلقاءَ بل ويمكن أن يكونوا جزءًا من المستقبل وجزءًا من الهيكليّة الجديدة، فعندها نكون كمن يبقي الجمر تحت الرماد أو كمن يزرع قنابلَ متفجّرةً للمستقبل، ستنفجر يومًا ما وستكون الكلفة أكبر بكثير.