لقي الكاتب حتفه إعداما عام 1986، وبقي رفاته محتجزا لمدة عشرين عاما، ولم تشفع له جنسيته الفرنسية ولا عيونه الزرقاء ليدفن في باريس، لا لشيء إلا لأنه فضح نظام الأسد الدموي.
قدم المفكر الفرنسي الراحل “ميشيل سورا” مقاربة لفهم السلطوية في سوريا وآثارها في أجهزة الدولة، وتحليل بنية النظام السوري خلال فترة حكم حافظ الأسد، ليخرج بكتاب “سوريا الدولة المتوحشة”، ومن خلال الخطوط العريضة التي اعتمدها في دراساته، تمكن من تفكيك البنية السلطويّة التي أنشأها الأسد في سوريا، عبر استثمار الآلة العسكرية التي تحتكر الدولة تملّكها واستخدامها وَفقَ نموذجِ (العصابة)، وتدمير إرادة المقاومة الداخلية وَفقَ سياسةِ الأرضِ المحروقة، إضافة إلى استخدام السلطة التناقضات الاجتماعية لخلق قوى متوازية، تستخدمُها في وجه من يتّهمُها بـأنها (أقلية تتحكم بالأكثرية)، إذ استطاع الأسد الحصول على السلطة باستخدامِ العصبية (العلوية) من خلالِ الدعوةِ إلى (الدولة الحديثة)، وذلك بتسليم (الأقلية)- مقاليدَ الدولة، مع العمل على التماسُكِ الداخلي في مقابلِ تفكيكِ “الأكثرية” تحت شعارِ العروبة والوطنية، ولذا كان على السلطة العمل على كسرِ مقاومة المدن، بتغييرِ بنيتها الطائفية، تارة بهدوءٍ كما حصل في حمص من خلال توطين أقلية علوية فيها، وتارة بعنفٍ كما حصل في مجزرة حماة.
في عام 1970 اكتملت سيطرة الجناح (الطائفي) في الجيش السوري، بنجاح انقلاب حافظ الأسد وزير الدفاع، لينتخب رئيسًا للجمهورية عام 1971، وفي سبيل إرساء حكمه الطائفي أعلن مرارا أن الأهمية لا تعود للطائفة أو الجماعة أو الدين، وأن الصلة الوحيدة والرابط الأهم بين الطوائف هو الوطن والعروبة، ليكون ذلك إعلانا صريحا عن سلطويته الطائفية.
ويستخدم “سورا” في تحليلاته مصطلحات أساسية يسقطها على الواقع ويبين أثرها في توحُّش الدولة والسلطة على المجتمع ومنها:
(الطائفة العلويَّة):
استطاعت الطائفة العلوية تحقيق ثالوث السيطرة من خلال: (الطائفة، البعث، الجيش)، وكانت الأزمة التي عاشتها سوريا أحد أهم الأسباب التي دفعت الطائفة للتوحد في مواجهة الأكثرية، إضافة إلى وجود انشقاق عشائري داخل الطائفة حيث تتوازن العلاقات على مبدأ الحسب والنسب داخل القبيلة الواحدة، ثَمَّ جاء قرار إنشاء جمعية (علي المرتضى) لتوحيد الطائفة العلوية وجعلها بالتالي طائفة سياسية وليس دينية، وقد باتت إثر ذلك خطاً من خطوط الدفاع عن السلطة ومصير الأسد شخصيا.
(الجيش):
يشير سورا إلى أن للجيش المكان المهم في توظيف العصبية المسيطرة، وقد سعت (الأقليات) منذ بداية حقبة الانقلابات إلى التغلغل في الجيش واحتكار العنف المفوَّض له لصالحها، لتتم تصفية المصالح الأخرى على يد الطائفة العلوية، من خلال تصفيتهم أو سجنهم أو تسريحهم أو نقلهم إلى خطوط خلفية، وبذلك تمت السيطرة للأسد على ولاء القيادات العليا في الجيش، الأمر الذي يتيح لنا فهم عدم إمكانية الانقلاب عليه، خاصة وأن المجموعات الكبرى التي تدين بالولاء للقائد من ذات اللون الطائفي، وبذلك أيضا يمكن تخمين الفراغ السياسي أو الصراع على السلطة في حال اغتيل الرئيس أو أي طارئ ينهي حياته .
(الحزب):
يختصر ميشيل سورا وصف حزب البعث بالقول: “لم يعد الحزب كمنظمة سوى واجهة مدنية للنظام الحاكم” ويستند “سورا” في هذا التحليل إلى ضعف فاعلية الحزب في وجه السلطة (المسيطرة)، إذ لم تكن الشخصيات القيادية السنية القليلة في الحزب كرئيس مجلس الوزراء محمود الأيوبي، ووزير الدفاع مصطفى طلاس والأمين العام المساعد للحزب عبد الله الأحمر سوى رهائن بيد الأقلية التي تمسك بتوجيه الحزب، وكانوا يتعرضون للسخرية عند التدخل أو المشاركة؛ إذ كان المؤتمر بشكل كامل تحت إشراف رفعت الأسد وإدارته، وعلى الرغم من أن لجنة الحزب المركزية تضم 70 عضواً من سائر الطوائف، فقد استأثرت الطائفة العلوية بنحو 30 مقعداً فيها، معظمهم من ضباط الفرق القوية في الجيش .
(المدينة):
لقد كانت المدينة المعقل الذي يواجه تغول الوحشية العسكرية، بينما كان الجيش المعقل الذي تستعمره أقلية صاعدة تخشى مواجهة النسيج المدني، وقد استطاعت الأقلية العسكرية جعل المدينة عاجزة سياسيًّا عن مواجهة القوة التي استخدمت شتى الوسائل لتوطين قادمين جدد في كل المدن المهمة كـ-حمص ودمشق- وتسليمهم شبكات التوزيع والقوة التابعة للدولة كدوائر الخدمات والجمعيات والمدارس والوزارات ودفعهم لممارسة سلطتهم بشكل فاسد وأخرق، وذلك للإيحاء بأن النظام منفك تماماً عن مجتمع المدينة وأنه يمسك زمام الأمور على النحو الذي يرغبه، كأن يسمح لأبناء الأقليات دخول أهم التخصصات الجامعية على الرغم من ضعف مستوياتهم العلمية لكونهم من منتسبي المنظمات البعثية أو ممن أدوا دورات القفز المظلي.
وقد استطاعت السلطة تكريس نفوذها من خلال توظيف العصبية واللعب على التناقضات، حيث أسَّس الأسد في سلطته تحالفاً براغماتيًّا يدمج فيه التعدديات والتناقضات، وقام بتعبئة كل المنظمات والنقابات وبعض التيارات السياسية ووضعها تحت مظلة الجبهة الوطنية التقدمية، وجعل حزب البعث القائد في هذه المنظومة، إضافة إلى علاقاته مع الغرب والاتحاد السوفييتي وتمويله المستمر من دول الخليج وعلاقاته القوية مع إيران، وتوحُّده الكامل مع الطائفة التي ربط مصيرها بشخصه.
لقد أدَّت هذه التحالفات دور العصبية التي تتكافل فيما بينها بروابط الدم المشترك (الطائفة) أو الانتماء (العروبة)، وذلك للوصول إلى السلطة باستغلال الدعوة (الدولة الحديثة)، ومن ثم فقد كانت الأكثرية خاسرة لكونها أكثرية بلا طائفة أو عصبية سياسية وعسكرية.
كما استطاع النظام توظيف العصبية التي يمتلكها (الطائفة، الريف في مواجهة المدينة، المدني/ العسكري، تناقضات النسيج الاجتماعي) ليصنع وسيلة ملك أو سيطرة بدائية، ليستقر في وعي العصبية المرتبطة بالنظام مقولة (إما نحن أو هم) (إما حاكمون أو محكومون) (الثورة أو الرجعية) إلى آخر تلك الثنائيات التي جعلت من عصبية النظام غير مستعدة للقبول بأي تنازل يفقدها مكتسباتها .
ومن ثم عمد إلى العنف القمعي كوسيلة في استمرار سلطته، إذ تمثل الحالة السورية وضعًا سلطويًّا يمكن وصفه (إرهاب الدولة)؛ فعمليات النظام القمعية ذات دلالة واضحة للنظم الغربية، فإرهاب الدولة يبين الواقع الذاتي لبنية النظام الاجتماعي وموقف السلطة منه، إضافة إلى كونه علامة نفي الدولة لا علامة وجود الدولة، إذ لم يتح للشعب السوري بأكثريته المشاركة في بناء السلطة ومؤسسات الجيش والحكومة، فقد كان يعيش في الواقع تحت سيطرة الدولة بكتائبها ونقاباتها ومؤسساتها الثورية والأقلية، مما يدفع للبحث في علاقة الدولة بالمجتمع، وهنا يستند “سورا” إلى حنا آرندت في تحليلها لمكونات السلطة الطاغية، والتي يشكل الإرعاب مكونها الأساس وجوهرها المستمر، فإن الرعب كفيل بجعل العلاقة بين الشعب والدولة محكومةً بالحذر والخوف الدائمين، وتتصحر في هذه الأرضية الممارسة السياسية.
إن نماذج العنف التي أداها النظام تشير إلى تجاوزات خطيرة على المدى الداخلي والخارجي، وخاصة بأساليبها في إرهاب الخصوم، ففي الحالة السورية، لدينا الكتائب ذات الأسماء الرنانة (الفهود الحمر) (سرايا الدفاع) ذات اللون الطائفي الواحد، والتي لا تسأل عن جرائمها التي نفذتها لمصلحة (المعلم) -كإعدام المئات في حلب وجسر الشغور ومجازر تدمر وحماة-، وتخضع بالقول للقائد الأعلى فقط الذي تدين له بالولاء الأعمى والطاعة المطلقة، وكلما كانت القيادات الصغرى قريبة بالدم من القيادات العليا فإن سلطتها ستكون أكبر نظراً لقرابتها من صاحب السلطة لا لرتبتها الميدانية، وكذلك الإعلام الذي ينتج البروتوكول الخاص في معاداة الإمبريالية على النحو الذي يراه (المعلم) ويصدر توجيهات يومية للمانشيتات والأخبار التي يجب أن تذاع بعناية في الأيام القادمة، والتي تركز بمجملها على السيد الرئيس وأفعاله.
استغل نظام الأسد حالة الخوف والهلع التي عاشها الغرب بعد نجاح الثورة الإيرانية، فقام بهذه مجزرة حماة بحجة القضاء على الإرهاب الإسلامي، وبدا هذا واضحا في افتتاحيات صحف عالمية مثل “لوموند” الفرنسية “والتايمز” اللندنية، حينما وصفت التخلف والتحجر التقليدي الذي يعيشه مجتمع حماة بأنه ينذر بظهور خُميني جديد، لولا الجراحة التصحيحية التي قام بها الأسد.
قام الأسد بابتزاز دول الخليج العربي على مدى سنوات، مخوفا إياها من نظام إسلامي على غرار إيران، ومع أن إيران صارت فيما بعد حليفا استراتيجيا للأسد، فإنه استطاع أن يحرِف الوجهة باتجاه التيار الإسلامي السني ممثلا بالإخوان المسلمين والحركات التي تدور في فلكهم، واستخدم حزب الله اللبناني كورقة ضغط ضد الغرب.
طبَّق حافظ الأسد سياسة الجذمور (نبات أرضي يتمدد أفقيا) وفق منطق براغماتي يدمج فيه التعدديات في مكان واحد مليء بالتحالفات والتناقضات المتلاعَب بها والتجاوزات، وعلى الصعيد الخارجي قام بتوقيع معاهدة صداقة مع الاتحاد السوفياتي، وضمن دعم الكتلة الأخرى الأقوى المتمثلة في الدول الاشتراكية الواقعية، وعقد تحالفا استراتيجيا مع إيران، مستغلا التقارب التاريخي بين العلويين والشيعة، بينما حافظ على علاقة مميزة مع السعودية الممول الرئيسي لنظامه.
رصد “سورا” كذلك أن الأسد بينما كان يتغنى بالوحدة العربية ويدندن بأغاني القومية ظاهريا، فقد كان يرسم في الخفاء بكل عناية وإتقان ما سمي لاحقا بالهلال الشيعي، ليشمل إيران وسوريا وحزب الدعوة في العراق (حيث تحققت هذه النبوءة بعد ربع قرن)، وحزب الله وحركة أمل في لبنان، وبهذا يضرب التيار الأصولي داخليا، ويضمن دعم وهدوء دول النفط التي هي الممول الرئيسي لديمومة نظامه.
تنبه “ميشيل سورا” إلى محاولة الأسد إحكام قبضته على القضية الفلسطينية والسيطرة عليها، ليحتكر من خلالها حق تمثيل القومية العربية، واعتبر “سورا” أن هذا هو المبرر الحقيقي لدخول القوات السورية إلى لبنان، وخصوصا بعد أن رفع ياسر عرفات في وجهه استقلالية القرار الفلسطيني، وبدا أن الأسد وإسرائيل يتبادلان نفس الدور في تصفية رموز النضال الفلسطيني في لبنان والعالم.
وقد كان “سورا” -إضافة إلى بصيرته السياسية الثاقبة وبعد نظره الإستراتيجي- مهتما بالمجتمع المحلي وبسكان المدينة في لبنان حيث يسكن، فقد اختار مدينة طرابلس اللبنانية لدراستها، وكانت طرابلس تجمع عينات من كل القوى التي تضاد نظام الأسد وتوجهاته. وهي -مثل حلب في سوريا- مدينة لا تنقصها المقومات الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية التي كانت تتوافر عليها الحواضر العربية العريقة، حتى قبل أن تكون مدن مثل دمشق وبيروت عواصم للدول التي نشأت بعد رحيل الاستعمار.
في العام 1988 عاد “كوفمان” صديق “ميشيل سورا” إلى باريس وحيدا، أما “ميشيل” فقد أعلنت جماعة الجهاد الإسلامية اللبنانية الشيعية إعدامه، وامتنعت عن تسليم جثمانه حتى جاء العام 2006 حين قام حزب الله بتسليمه إلى الحكومة اللبنانية، وهو ما يشير هذا إلى كمّ الحقد الذي كان النظام السوري وحلفاؤه من الشيعة اللبنانيين وإيران يُكنّونه لميشيل نتيجة لكتاباته التي لا بد أنها أرقت مضاجعهم.
مقاطع من الكتاب
مجزرة تدمر
في مطلع صيف 1980 تصاعدت موجة العنف والقمع. ورداً على محاولة تفجير فاشلة ضدّ الرئيس حافظ الأسد في 26 حزيران، نظّم معين ناصيف، رائد في سرايا الدفاع التابعة لرفعت الأسد، حملة عقابية ضدّ سجن تدمر في الصحراء السورية، حيث تمّ تجميع الآلاف من المعارضين، الإخوان المسلمين، أو أقاربهم، وهم الغالبية. وقد انتشرت روايات عديدة حول الحدث عبر إشاعات سرت بين الجمهور، ولكن شعر الجميع أنه تم ارتكاب ما لا يمكن إصلاحه. بعد ثمانية أشهر، رأى المشاهدون الدمشقيون، الذين أنذروا عشية تلك الليلة، مذهولين، المحاكمة التي نقلت على شاشة التلفزيون الأردني، لثلاثة أشخاص شاركوا في العملية. فقد تم إيقافهم في الأردن في كانون الثاني/يناير 1981، حيث كانوا في مهمة لاغتيال رئيس الوزراء الأردني، مضر بدران، الذي اتهم بدعمه لـ”عصابة الإخوان”. في ما يلي مقتطف من هذا الاستجواب، الذي نشر في اليوم التالي في أكبر صحيفة يومية أردنية:عيسى إبراهيم فياض [علوي، ولد في عام 1960]: المهمة الأولى: مهمة سجن تدمر في 26/6/1980، تعرض سيادة الرئيس حافظ الأسد لمحاولة اغتيال، فجر اليوم الثاني 27/6/1980 فيّقونا الساعة الثالثة بالليل، وقالوا لنا اجتماع في لباس الميدان الكامل مع الأسلحة، واجتمعنا بالساحة، وأخدونا إلى اللواء (40)، وهناك كان منتظرنا الرائد معين ناصيف قائد اللواء، ألقى فينا كلمة، قال هدول الإخوان المسلمين ما عم بفرقوا بين مسلم علوي ومسلم سني ومسيحي، عم بيقتلوا في الشعب، وامبارح حاولوا اغتيال الرئيس، لذلك اليوم راح تقوموا بهجوم على أكبر وكر لهم؛ وهو سجن تدمر، قال مين ما بده يقاتل؟ ما حدا رفع إيده، الأمر العسكري، قال لنا اطلعوا بالسيارات، طلعنا بالسيارات… ووصلنا لمطار المزة القديم، وكان في انتظارنا مجموعة من اللواء 138؛ أحد ألوية سرايا الدفاع، إللي قائدة المقدم علي ديب ـ علوي ـ من اللاذقية، وكان موجود في انتظارنا عشرة طائرات هيلوكوبتر.طلعنا بالطائرات باتجاه تدمر، وصلنا حوالي الساعة ستة ونص الصبح بنفس اليوم، وهناك نزلنا من الطائرات، وفرقونا إلى مجموعتين؛ مجموعة اقتحام؛ ومجموعة ظلّت بالمطار، المجموعة اللي راحت على السجن إجت سيارة تراك دودج ونقلتنا للسجن، بالسجن توزعنا لمجموعات حوالي شي ستة مجموعات وأكثر، يعني كانت مجموعتي أنا حوالى أحد عشر واحد يعني، المجموع الكلي اللي تحرك للسجن حوالي ستين واحد هيك شي، مجموعتي كانت بقيادة الملازم منير درويش.وفتحوا لنا باب المهجع، اللي دخلنا حوالي ستة لحد السبعة، قتلنا اللي فيه، كان مجموع اللي فيه حوالي ستين واحد […] يعني كان مجموع اللي رشيتهم حوالى 15 واحد. ومجموع اللي قتلوا في السجن من الإخوان المسلمين كان حوالى 550 واحد والمجموع اللي قتلوا من السرايا كان واحد، واثنين جرحى. طلعنا عاد صار الواحد يغسل إيديه ورجليه، كانوا ملطخين بالدماء.س: كم استغرقت المهمة هذه؟ج: استغرقت حوالي نصف ساعة، كان في دوي قنابل، وصيحات الله أكبر، وطلعنا بالطائرات… لمطار المزة القديم… كان بانتظارنا الرائد معين ناصيف اللي شكرنا على جهودنا وعزّانا بوفاة زميلنا، وقال لنا كل واحد يلتحق بعمله، فالتحقنا بعملنا.في 7 تموز، تم التصويت على قانون في مجلس الشعب، يعاقب بالموت لمجرد الانتماء إلى منظمة الإخوان المسلمين. يمكننا أن نتخيل هامش المناورة التي تُركت لقوى الأمن في إنجاز مهتمهم. ولكن هذا الغطاء القانوني، بحدّ ذاته، ليس هدفه سوى التمويه، احتراماً لقواعد سلوك “الدولة الحديثة”، ذلك أن ممارسة القمع هي في معظم الأحيان عمياء وجماعية.في آب 1980، قُتل 80 شخصاً رمياً بالرصاص في حلب في أسفل المبنى نفسه، في عملية ثأرية لعملية اغتيال نفذت قبل ربع ساعة وتبعد بعض الأمتار عن ذلك المكان، ضد جنود من الوحدات الخاصة. وهكذا في نيسان 1981، في حماة، حضرت مجموعة من المغاوير بالطوافة في منتصف الليل، انتزعوا 400 بريءٍ من منازلهم، بطريقة عشوائية، لإعدامهم على الفور: “ثمن الدم” لهذه العملية الإرهابية التي تم إجهاضها ضدّ قرية علوية في المنطقة. في كل مرّة، يتم اختيار ضحايا التكفير عن الذنوب فقط بناء على العمر. بالنسبة إلى ما تبقى، فأن يكون المرء عضواً أو ضابطاً في الحزب لا يساعده أبداً في أية حال، ولسوء حظّه قد يؤخذ في حملة الاعتقال، لا تعترف الدولة سوى بالانتساب الطائفي للتمييز ما بين البذرة الطيبة والزؤان.
“لم يتركوا رجلاً واحداً…”
شهد أحد الناجين من مجزرة حماة في نيسان 1981، على هذه الواقعة، في هذه الوثيقة المسجلة على شريط صوتي، نشرت منها صحيفة واشنطن بوست في عددها الصادر في 25 حزيران 1981 بعض المقاطع:كل شيء بدأ في حيّنا، المشارقة. كانت الساعة 1:30 صباح هذا اليوم، الجمعة 24 نيسان. لم أكن نائماً. رأيت طوافتين حطّتا على المقبرة المجاورة. خرج منهما جنود، وأغلقوا الحيّ. حوالى الساعة الثانية، بدأ إطلاق النار. وهاجموا المنازل. وطرقوا على الأبواب وحمّلوا كل الرجال. وبعد أن جمعوا 15 أو 20 رجلاً، قادوهم إلى طريق مغلق، ومن ثم مضوا إلى الآخرين. حوالى الساعة الخامسة جاء دور منزلنا، أخذوا رجلين من عند الجيران, كان هناك أربع شقق في الدور الواحد، ولكنهم لم يروا باب الشقة الثالثة أو الرابعة، لأنه لم تكن هناك إنارة في الممر. ولحسن الحظ، لم يدخلوا منزلنا إذاً. لبست وهيّأت نفسي للخروج، معتقداً أن الأمر كما في السنة السابقة حفلة ضرب، لثلاثة أو أربعة أيام، وأنهم سيخلون سبيلنا بعد ذلك. هكذا فعلوا السنة الفائتة، بإطلاق الرصاص في الهواء وفي الاتجاهات كافة لإرهاب السكان. بالطبع من الممكن أن يقتل أحدهم بالمناسبة، ولكن لم تكن هناك مشكلة بذلك. هذه المرة، لم نفهم ماذا حصل على الفور؛ إذ لم تكن هناك أية مقاومة، على الأقل في حيّنا. واستمر إطلاق النار لمدة تسع ساعات، حتى الساعة التاسعة والنصف صباحاً. في تلك الأثناء، كنت أسمع من بيتي تأوهات النساء التي ملأت الحي، وأيضاً صراخ الرجال، الذين أبرحوا ضرباً قبل إعدامهم.حوالى الساعة الحادية عشرة، تعرفت على صوت أخي في الشارع، وهو لا يسكن عندنا، لأنه متزوج. سمعته يصرخ: “لم يتركوا رجلاً واحداً، ولا صبياً واحداً في الحي!” نزلت وأنا ألبس قميصي. وسرت بضع خطوات، قبل أن أقع على أشلاء جثة، وأيضاً أشلاء أخرى. كان هناك عشر أو خمس عشرة جثة، ومررت أمام كل واحدة منها، ونظرت إليهم طويلاً من دون أن أصدق عينيّ. في كل كومة كان هناك 15، 20، 30 جثة. كان يصعب التعرف على الوجوه. أعتقد أن رشقات الرصاص كانت بمستوى الرؤوس؛ إذ رأيت أشلاء من النخاع على الأرض والجدران. وبدا الوضع مأساوياً! كان هناك من الأعمار كافة من عمر 14 سنة، في لباس النوم، أو جلابية، يلبسون صنادل أو عراة الأقدام. من عتبات المنازل إلى المزاريب، كان الدم يسيل كالساقية.وتجمّعت العائلات حول أكوام الجثث تنتحب. رأيت امرأة على مدخل منزل، أمام إحدى تلك الأكوام. وقلت لها من الأفضل أن تلزمي منزلك وعدم النظر إلى هذا المشهد الذي لا شيء يسر فيه. ردت: “كيف يمكنني أن أدخل إلى منزلي؟ الليلة السابقة، كان المنزل يعمره سبعة أشخاص، والآن ها هم. كيف أدخل وأتركهم في الخارج؟”، عرفت عائلة فقدت تسعة من أفرادها وأخرى أحد عشر. ينبغي القول إنه أثناء حملة الاعتقال، لم يطلبوا أية بطاقة هوية.السنة السابقة، أكثر من 20 أو 25 شخصاً قتلوا دفعة واحدة. وعلى أي أساس؟ كان أحد أفراد عائلة مطلوباً، نزل الضباط إلى الشارع وجمع كل من يحمل اسم العائلة نفسه: الأب، الأخ، ابن العم…، وعمدوا إلى تصفيتهم في الزاوية ومن ثم غادروا مخلّفينهم في مكانهم. ولكن هذه المرة، لم يفرّقوا، ولم يطلبوا بطاقات الهوية. وبالمناسبة، كان هناك ستة أعضاء من الكتائب المسلحة الموالية للنظام من ضمن الضحايا، أي بعثيون ممن خضعوا لتدريب عسكري للـ “دفاع عن الثورة”!———-“استنجدت أمة العرب بالإله، فتَّشتْ عن القيم القديمة في الإسلام والمسيحية، استعانت بالنظام الإقطاعي والرأسمالي وبعض النظم المعروفة في القرون الوسطى، كل ذلك لم يجدِ فتيلاً … القيم المريضة وليدة الرأسمال والإقطاع والاستعمار جعلت الإنسانَ العربي متخاذلاً متواكلاً، إنساناً جَبرياً مستسلماً للقدر لا يعرف إلا أن يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.. ويؤمن “الإنسان الاشتراكي العربي الجديد” أن الله والأديان والإقطاع ورأس المال والاستعمار والمتخمين وكل القيم التي سادت المجتمع السابق ليست إلا دمى محنّطة في متاحف التاريخ. إذ ليست هناك سوى قيمة واحدة هي الإيمان المطلق بالإنسان الجديد الذي لا يعتمد سوى على نفسه وعمله وما يقدمه للبشرية جمعاء. الإنسان يعلم أن نهايته الحتمية الموت، ولن يكون هناك نعيم أو جحيم … لسنا بحاجة إلى إنسان يصلي ويركع خاشعاً ذليلاً، بل نحن بحاجة إلى إنسان اشتراكي ثائر”
الضابط ابراهيم خلاص
رئيس تحرير مجلة جيش الشعب
وعضو قيادة حزب البعث بسوريا
٢٥ نيسان ١٩٦٧——–
خطاب الأسد 8 آذار 1980:
[…] من يصدق إن هؤلاء الشهداء الذين اغتالوهم هم أعداء الله ثم كيف يستطيع أحدنا أن يحكم على الاخر إنه عدو الدين وعدو الله بقدر ما أعلم لم يفوض ربنا أحدا بهذا الأمر ولن يقولوا إن لديهم تفويضا بهذا الأمرلو كنت أعلم انهم يدافعون عن الإسلام ما اختلفت معهم ولما اختلفوا معي لأنني ولأن حزبنا بكامله بغض النظر عن انتماء الفرد الديني يعتز بالإسلام نحن حزب البعث العربي الاشتراكي نبغي أن نبعث أمجاد وتاريخ وتراث هذه الأمة فكيف لنا أن نعمل على بعث هذا التراث وأن لا نعتز بالإسلام كيف لنا أن نعمل على بعث هذا التراث ولا نعتبر بالإسلام نحن في الحزب وفي هذا البلد لا يمكن لأحد أن يعتز بعروبته دون أن يعتز بالإسلام.فالإسلام رسالة الله لنا أولاً، ولا نأتي بشيء من عندنا إنما هذه هي الحقيقة. فإذا كانت رسالة الله لنا نحن العرب، فكيف لا نعتز بهذه الرسالة… فمن يعتز بعروبته يعتز بالإسلام. هذا من جهة، ومن جهة أخرى أنا شخصياً أيها الأخوة، الكثير من المواطنين في بلادنا، ومنهم من يعرفني عن قرب، يعرفون أنني مؤمن بالله وبرسالة الإسلام، وعندما كان الإسلام في خطر من وجهة نظر البعض، كنت أنا وبعض رفاقي المدافعين الأمناء عن الإسلام. ولم نسمع صوتاً من هؤلاء يدافع عن الإسلام آنذاك عندما كان في أزمة.أنا منذ سنوات كثيرة ثلاثين أو أكثر وأنا أصلي وأقول أشهد أن لا اله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ومع ذلك لم يعترف هؤلاء بإسلامي. لا يمت إلى الإسلام بصلة من يضع نفسه خادما طيعا في خدمة أعداء الشعب وأعداء الوطن وأعداء الله. كنت مسلماً وسأظل مسلماً وستظل سورية قلعة شامخة يرفرف فيها عالياً خفاقاً علم الإسلام وسيندحر هؤلاء الخصوم لأنهم أعداء للوطن وأعداء للشعب كما هم أعداء للإسلام الذين يتاجرون به وباسمه.