1
أسند ثقله إلى جدار متآكل، حملقت عيناه في البيوت الطينية المبعثرة حوله أغمض عينيه:
– سأرحل عنك أيتها القرية المرهقة، سأسير في شوارع مضاءة وأقبل فتيات تفوح رائحة العطر منهن.
ارتفعت عيناه بعيداً، سار في شوارع مضاءة، حملق بذهول بعشرات الحسناوات، شعر بالسعادة ثم زحف إحساس بالانقباض تدريجياً إلى داخله واستفاق جوعه القديم عندما بدأ ينظر بطريقة مختلفة إلى الموجودات ولم يبتسم.
2
قال والدي: من يعشق نساء المدن يتعب. ثم حدق في سقف الغرفة وأشرق وجهه الشاحب.
وقال أبي مرةً: لا تعشق النساء. ومد رجله المتشققة وظل يرّبتُ طويلاً على بطنه الخاوية.
3
– هل أنساك الحزن شيئاً …؟
– نسيت وجهي لديها.
ابتسما معاً عندما التقيا، سارت إلى جواره صامتةً، حدَّق في الأضواء المتراقصة، تابع تعرُّجات الشارع بعينيه المتعبتين، ودَّ لو يسند جسده إلى جدار ما، أصوات السيارات تهز جسده، التفتت إليه، التقت نظراتهما ثم عادت لتراقب تشقق الإسفلت تحركت يده في جيب بنطاله داعبت القطع الصغيرة، أوقفتهما سيارة مسرعة، تأففت بصوت مسموع، حاول أن يقول شيئاً، كان يكره السيارات، كل السيارات تذكره بطبقته وتشعره بكرهها له همس لها:
– أخاف الموت أسفل سيارة مسرعة.
نظرت إليه، نقًّلت الكتاب بين يديها، استقرت عيناه على جثة صفراء تسير في الشارع، انقبض داخله وشعر برغبة تدفعه للحاق بتلك الجثة وتقبيلها، دموع امرأة تنهمر في الشارع، تدير المرأة وجهها خشية النظرات التي استقرت عليها دفعة واحدة.
– تسريحة شعرك سيئة.
– سأغيرها.
همست ببرود، سارا في الشارع آخر، ظلَّت صامتةً، توقفا فجأة ودون أن يقولا شيئاً، افترقا.
4
نظر بعيداً استقرت عيناه على وجه فتاة جميل، مسح عرقه بيده المغبَّرة، نظر إلى تمزق يديه واهتز جسده بذعر عندما داهمه هاجس عدم قدرته على مواصلة العمل خفت صوته تدريجياً، رفع المجرفة إلى الأعلى ثم تركها تسقط بقوة على الأرض التي بدأت تتشقق، لمح سيارة تقترب مسرعة، داهمه الخوف، تسارعت دقات قلبه، كانت السيارة تتجه إليه بسرعة أدهشته، جحظت عيناه عندما جثمت السيارة فوق أرغفة الخبز وقطع البندورة التي أسندها إلى الجدار، قفز مسرعاً ودون أن يتردد قذف السيارة بالمجرفة، تناهى إلى سمعه صوت الزجاج وهو يتحطم، وقف بثبات وهو يمسك بكلتا يديه أحجاراً كثيرة.
5
كان الباب مغلقاً، ارتاح جسدها إلى جواره:
– أنت رائعة.
– وأنت..
– ممتلئاً بالحب أَجيئك، ابتعدي، اقتربي، تتبخر أحلامي، في المحطة يصفر القطار، اقتربي، يصبح ظلانا أفقاً جريحاً.
– أحبكَ.. أحبكَ..
يمتزج الظلان، يتداخلان ينهمر الحزن ويعبرانه طريقاً لا خلاص منه، يحاول تقبيلها:
– تعبت.
يرسمان على الجدار أشكالاً، تتمزق الأشكال وتتساقط حين يبتعد الظلان.
– أنت كئيب؟
– طردت من العمل هذا الصباح.
حاول رسم ابتسامةٍ على وجهه، التصق بالجدار تنفسها يخترق مساماته، يرتاح، يحاول النظر إليها دموعها تؤلمه:
– هل تبكين …؟
ظلت صامتة وكان الباب مغلقاً والليل طويلاً، طويل.
6
– هل ترحل …؟
– الحقائب شاحبة والقطار يعلن بداية أحزان جديدة.
تفرَّس وجهها طويلاً.
– أكره أصوات القطارات.
اغرورقت عيناها بالدموع:
– هل ترحل…؟
وراحت تنشج بعصبية.
7
كوَّر يديه فوق رأسه، أنزلهما قليلاً ثم شرع يضغط بشدة، صرخ:
– أنا محاصر..
حملق في الجدران الأربعة شعر أن والده ينظر إليه من بعيد، نشيج والدته الصامت يصل إليه وصراخ شقيقته الصغيرة (سهام):
– أنا جائعة..
دفع يديه إلى الجدار بقوة تسربت البرودة إلى داخله، ابتعد صوته خارج الغرفة تابع منحنيات الأزَّقة مرَّ بالأرصفة ارتجف العشرات من الفقراء ثم ارتفعت أصواتهم تشاركه الصراخ.
8
في الحقائب جثمت كتب كثيرة وأوراق وصور حبيبته، دفع رغيفَ خبزٍ يابسٍ إلى جوار الكتب.. طافت عيناه في الفراغ تنفس بارتياح.
– غداً سأعود إليك أيتها القرية الرائعة.
وأغمض عينيه على صورة أزقة القرية الترابية.