عندما نادى أوّل شاب متظاهر عربي بسقوط النظام، لم تكن هناك شبهة في مطالبته بالحرية والعدالة. لكن لم يخطر له، ولا لمن ردّدوا وراءه ما أصبح شعاراً للمحتجّين، أنها كانت لحظة فارقة؛ لقد دخلوا العالم، وتعولموا من دون أن يعرفوا أنهم سيدفعون ثمناً باهظاً لعدم إدراكهم كنه هذه الخطوة التي خطوها نحو عالم، كانوا يرونه من بعيد برّاقاً وجميلاً ورائعاً، يرفع شعارات الحرية وحقوق الإنسان، فهتفوا حتى بحّت أصواتهم، واعتقدوا أنهم أسمعوه أصواتهم، وأبلغوه أنهم ليسوا أقلّ من غيرهم، يؤمنون بما يؤمنون به.
بدا المستقبل مشرقاً رغم الدماء والشهداء. في ما بعد، عندما طوردوا لجأوا إليه، وإن ليس على الرحب والسعة لدى بعض الدول. اضطرّوا إلى استقبالهم، ربما لأنهم أسهموا بتوريطهم في الثورة، وتخلّوا عنهم، وعما يزعمونه من مبادئ.
لم يعرف المحتجّون أنهم تعرّضوا إلى خديعة كبرى، فالعالم الذي وقف تقريباً بأسره إلى جانبهم، وزايد عليهم بالتصريحات الحازمة والمؤتمرات، سيتخلّى عنهم سرّاً وعلناً، دونما اعتراف بأنه كذب عليهم، أو الشعور بالذنب.
لا تتدخل الحكومات عادة في ثورة أو حرب – ولو كان تدخلاً إنسانياً، أو لأسباب محقّة أو عادلة – إلا لأسباب مصلحية، غالباً اقتصادية ذات طبيعة استراتيجية. وإن كانت عندما تتدخل، تبرّر ذلك بأغراض إنسانية أو إغاثية أو أيديولوجية، مع إطلاق حملة تحشد متحمسين لأغراضها، تساند مزاعمها، فمن الأهمية إقناع الرأي العام في بلدها وفي العالم بصوابية ما اتخذته من قرارات تراعي أو لا تراعي القوانين الدولية، وذلك بعرض أسبابها الداعية إلى إنقاذ الدولة الجارة أو الصديقة، ومناصرة الدولة القائمة، أو الثورة الحالية، بطريقة يُتصوّر أنها مشروعة، بغية استدراج التأييد لسياساتها. هذه العملية مهمة في الدول الديمقراطية، وبشكل أقل في الدول الشمولية، فالتدخل قد يقود هذه الدول من فرط خطورته إلى المشاركة في حرب قد تكون مستنقعاً.
بعيداً عن البروباغاندا، وأقرب إلى الواقع .
بعيداً عن البروباغاندا، وأقرب إلى الواقع، لا نجد أمثلة تاريخية مقنعة لحكومات شنّت حرباً لسبب آخر غير مصالحها القومية. فلا أميركا ولا أوروبا خاضتا حروباً على أساس من المبادئ والقيم الأخلاقية، حتى ما زُعم عن الحرب ضد الفاشية دفاعاً عن الحريات في العالم. الحقيقة التاريخية تقول، لو لم يجرّهم هتلر إلى الحرب ويهدد بلدانهم، ما اضطر “العالم الحر” إلى الدخول في حرب استمرت خمس سنوات كلفت ملايين القتلى. وأصلاً، لما كانت هذه الحرب، ولبقي هتلر زعيماً أوحد، يتصرّف بشعبه كما يشاء، يقمع معارضيه، ويضطهد اليهود بطردهم خارج ألمانيا، أو بإرسالهم إلى المعتقلات والمحارق، ولكانت ألمانيا اليوم دولة نازية متحالفة مع الدكتاتوريات في العالم، تنافس في شموليتها الاتحاد السوفييتي.
إن الولايات المتحدة التي تدّعي أنها تقود العالم بما يتماثل مع مبادئها كجزء من سياستها الخارجية، وتزعم أن حماية حقوق الإنسان جزء من توجهاتها، لم تذهب إلى حروبها مدفوعة بفعل الخير ولا الأخلاق، ولم تخف دفاعها عن مصالحها الاقتصادية والعسكرية، حتى ما وراء البحار، ودخلت حروباً كانت إجراماً خالصاً في سبيل الحصول على ثروات الشعوب الأخرى، كما اعتبرت نفط “الشرق الأوسط” جزءاً من مصالحها الحيوية التي لا تنازل عنها…
لا يمكن فهم العالم، إلا من خلال هذا الهدف المعلن للتعامل الخفي بين الدول، إنه بمثابة القوانين الدولية المعترف بها، لكنه يفوقها تأثيراً، فهو المعمول به، بينما القوانين الأخرى، نادراً ما يعمل بها.
عن العربي الجديد