بلهجة شديدة، وجهت المستشارة أنغيلا ميركل تحذيراً غير مسبوق لموسكو من مغبة مواصلتها هجمات التجسس العدوانية واسعة النطاق على ألمانيا. هذا الموضوع يرصد فصولاً مثيرة من “حرب ظل” ضارية تشنها روسيا على الأراضي الألمانية.
قصة استحواذ الروس على بريد ميركل؟
اسمه ديمتري بادين، 29 عامًا، روسي الجنسية، زملاؤه يلقبونه بـ “سكاراموش”، مهنته: عميل لدى المخابرات العسكرية الروسية GRU. السلطات القضائية الألمانية مقتنعة تماماَ بتورطه في القرصنة الإلكترونية التي تعرض لها النظام المعلوماتي لمقر البرلمان “بوندستاغ” في فبراير/ شباط 2015. ويُعتقد أن القراصنة الروس استولوا على الرسائل الالكترونية للنواب. ويُشتبه في تمكن بادين من التسلل إلى قلب أجهزة الكومبيوتر في مكتب المستشارة ميركل بمقر البرلمان ووضع برمجيات خبيثة فيها. وبعد خمس سنوات من العمل الاستقصائي المضني من قبل المكتب الألماني للشرطة الجنائية BKA والشرطة الاتحادية والسلطات الأمنية الأخرى، تم استصدار أمر باعتقال بادين في صك اتهام مُوثق في أكثر من 50 صفحة. القاضي أكد أن الهجوم على “بوندستاغ” قضية “بالغة الخطورة”. واعتبر “التجسس على البرلمان، هجومًا على المؤسسة التشريعية لجمهورية ألمانيا، وبالتالي ضربا لقلب الدولة الألمانية، نفذته المخابرات العسكرية الروسية”. ويشتبه في أن بادين شارك أيضاً في قرصنة الحملة الانتخابية الرئاسية للحزب الديموقراطي الأمريكي عام 2016 وبالتورط في عمليات تجسس أخرى من بينها عملية استهدفت منظمة حظر الأسلحة الكيماوية.
القراصنة الروس تمكنوا من الاستحواذ على كومبيوتر مكتب المستشارة لعدة أيام، كما ذكرت صحيفة “تاغسشبيغل” الصادرة في برلين في عددها ليوم (الثامن من مايو/ أيار 2020). واستندت الصحيفة لمعلومات من مصادر قريبة من الدوائر الأمنية أكدت لها أن الهجوم على البرلمان بدأ بحيلة. إذ تلقى النواب رسالة إلكترونيًا زائفة زعمت أن مصدرها الأمم المتحدة، بمضمون يتعلق بالصراع بين روسيا وأوكرانيا. وبمجرد النقر على رابط التقرير المزعوم يتم الوصول لصفحة محملة ببرامج خبيثة.
استراتيجية “الحرب الهجينة” ضد ألمانيا
يرى خبراء الغربيون أن الاستخبارات الروسية تتبع “استراتيجية إرباك” واسعة ضد الديموقراطيات الغربية، تشمل التدخل في الانتخابات ودعم الاتجاهات الشعبوية في الغرب واستهداف الوكالات الدولية ونشر الأخبار الكاذبة. ميركل انتقدت بلغة واضحة “تحريف الحقائق” و”الحرب الهجينة” التي وضعها بوتين في قلب علاقته مع الغرب عموماً وألمانيا تحديداً. وقالت “يتعين علينا أن ننتبه لهذه الحرب، التي لا يمكننا نسيانها بسهولة… هذا ليس مجرد عمل عشوائي، بل استراتيجية مرسومة تُنفذ”.
ميركل وصفت عملية القرصنة بـ”المشينة”، وأكدت أنها تملك “أدلة دامغة” بتورط الأجهزة الروسية في عمليات تجسس طالتها شخصياً. “بصراحة، يمكنني القول إن هذا يؤلمني، في كل مرة، أحاول أن أبني فيها علاقة أفضل مع روسيا، هناك، في الجانب الآخر، أدلة دامغة بأن القوات الروسية تتورط في مثل هذه الأعمال”، موضحة أن “التضليل على الإنترنت وتحريف الوقائع هما جزء من استراتيجية روسيا”. وخلُصت إلى أن هذا لا يُسهل إقامة علاقات مع موسكو.
بوتين: التجسس والدعارة أقدم مهن العالم!
الاتهامات بالتجسس بين الدول تتكرر وتتشابه، ولا دولة تعترف علنا بممارسة التجسس. لذلك كان رد موسكو متوقعاً. وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف نفى كل الاتهامات جملة وتفصيلاً واعتبرها “عارية من الصحة”. وقال في مقابلة مع صحيفة “أيه. بي .كيه” الروسية الاقتصادية (الجمعة 15 مايو/ أيار 2020): “مرت خمسة أعوام ولم يتم تقديم دليل واحد”. لافروف قلل من شأن تهديدات ميركل بإجراءات عقابية وذكًر بموقف برلين من كشف العميل الأمريكي السابق إدوارد سنودن عام 2013 تجسس الاستخبارات الأمريكية على المستشارة ميركل، واستطرد أنه لم تكن لذلك أية عواقب.
المفارقة أن الكشف عن هذه العمليات التجسسية، وإن كانت تضر بصورة الرئيس فلاديمير بوتين في الخارج، إلا أنها تخدمه في الداخل، لأنها تكرس فكرة أن روسيا محاطة بالأعداء وأن الدولة الروسية حاضرة في كل الجبهات لمواجهتهم. بوتين الذي كان بنفسه عميلاً في الاستخبارات السوفييتية KGB قال يوماً: “التجسس والدعارة ليستا وليدتا اليوم، لعلهما أهم المهن في العالم”.
خيارات الرد الألماني على العدوانية الروسية
احتفظت المستشارة ميركل بحق اتخاذ تدابير عقابية ضد روسيا. وبدأت أصوات تتعالى في برلين، تدعو لتغيير التعامل مع العدوانية الروسية المتزايدة، باعتبارها استراتيجية حربية وليست حالات معزولة. وبالرغم من الغضب الواضح في برلين، إلا أن هناك في الواقع حيرة بشأن التعامل مع نتائج التحقيق. صحيفة “زوددويتشه تسايتنونغ” (15 مايو/ أيار 2020) ذكرت أنه لم يُقرر بعد أي شيء بشأن رد الفعل الألماني، وإن كانت مذكرة اعتقال بادين في حد ذاتها، رسالة قوية تضع موسكو في موقف حرج، في مؤشر على أن العلاقات بين البلدين باتت على صفيح ساخن. مصادر حكومية كشفت للصحيفة أن “الأمر لا يقتصر على اختراق البرلمان، وهو في حد ذاته انتهاك هائل، وإنما أيضاً بالنشاط الاستخباراتي الروسي بشكل عام الذي لم يعد يلتزم بقواعد اللعبة، فبالإضافة إلى الهجمات الإلكترونية، تزداد عمليات القتل والاغتيالات”.
ويدرس مكتب المستشارية إضافة إلى وزارة الخارجية وأجهزة الاستخبارات الأخرى بجدية خيارات الرد. وقد يتم التفكير في طرد عدد من العملاء الروس المتنكرين في صفة ديبلوماسيين، لكن الكرملين قد يرد بالمثل. وبهذا الشأن قال مانويل هوفرلي رئيس لجنة “الأجندة الرقمية” في البرلمان إن “الهجوم على بوندستاغ، كان هجوماً على ألمانيا بأكملها. لذلك أتوقع على الأقل استدعاء السفير الروسي من قبل وزير الخارجية هايكو ماس”.
لا جاسوس اقترب من مستشار بهذا الشكل منذ براندت
مانويل هوفرلي، أكد أنه منذ غونتر غيوم، لم يقترب جاسوس أجنبي من مستشار ألماني كما فعله الروس اليوم. ويُذكر أن غيوم كان يعمل جاسوساً لصالح ألمانيا الديموقراطية (الشرقية) إبان الحرب الباردة، وسكرتيراً خاصاً لمستشار ألمانيا الغربية ويلي براندت في ذات الوقت. قام بتزويد وزارة أمن الدولة “شتازي” في الدولة الشيوعية بوثائق بالغة السرية من مقر المستشارية. واختراق هذا الجاسوس أعلى دوائر صنع القرار في ألمانيا الغربية، ما دفع المستشار “براندت” إلى تقديم استقالته في مايو/ أيار 1974 تحت وطأة الفضيحة والضغط الشعبي الكبير.
وعلى مدى السنوات الماضية رصدت الاستخبارات الألمانية نشاطاً سرياً متزايداً للأجهزة الروسية في أوروبا عموما وألمانيا تحديداً، نشاط يزداد جرأة وفوضوية سنة بعد أخرى. وكشفت الاستخبارات الغربية مجموعة قراصنة روس تحمل رموزاً سرية من قبيل “فانسي بير” و”ساندفورم” و”سيبر كاليباتي” و”بلاك إينيرجي”، والتاي يُعتقد أنها نفذت آلاف الهجمات الالكترونية عبر العالم.
اغتيال في قلب برلين ـ تجاوز لكل الخطوط الحمراء
في حديقة تيرغارتن العامة وسط برلين، غير بعيد عن مقر المستشارية، وقعت جريمة شنعاء اهتزت لها العاصمة الألمانية في (23 من أغسطس / آب 2019). اغتيل فيها تورنيكه ك، مواطن جيورجي من أصل شيشاني (40 عاماً) في رابعة النهار، بعدما اقترب منه قاتله بدراجة وصوب له رصاصة الغدر من الخلف. غير أن قوات الأمن تمكنت من القبض على الجاني في وقت قصير غير بعيد من مسرح الجريمة. الضحية، كان ضابطاً سابقاً في القوات الخاصة الجورجية وأحد قدامى المحاربين ضد القوات الروسية في حرب الشيشان. الكرملين نفى، حينها، تورط الأجهزة الروسية في حادث الاغتيال. ولا يزال الكل يتذكر قرار وزارة الخارجية الألمانية في (الرابع من ديسمبر/ كانون الأول 2019)، طرد موظفين اثنين بالسفارة الروسية على خلفية هذه الجريمة، بعدما رفضت موسكو التعاون للكشف عن ملابسات الحادث.
ولوحظ في السنوات الأخيرة أن أجهزة الاستخبارات الدولية بشكل عام، باتت أكثر جرأة وأحيانا فوضوية (مثال اغتيال خاشقجي أو نموذج سكيربال) كما أوضح لـ DW البروفيسور فولفغانغ كريغر من جامعة ماربورغ الألمانية بالقول: “يمكن ملاحظة أن أجهزة الاستخبارات لم تعد تعمل في الخفاء كما كانت في السابق. على سبيل المثال، أصبحت حوادث السيارات المفتعلة بعيدة كل البعد عن الموضة اليوم. لم تعد أجهزة الاستخبارات تخجل أو تخشى شيئاً بالمرة”.
عمليات مدوية وأخرى فاشلة للاستخبارات الروسية
استطاع جهاز المخابرات العسكرية الروسية GRU فرض نفسه على باقي الأجهزة الروسية، وخلق لنفسه هالة كبيرة في روسيا. ويعتقد الخبراء أن ذلك يعود لدوره الحاسم في ضم شبه جزيرة القرم الأوكرانية دون إراقة دماء. غير أن هناك لائحة طويلة من العمليات الفاشلة كان لها صدى دولي كبير، منها الهجوم على البريد الإلكتروني لهيلاري كلينتون والحزب الديموقراطي الأمريكي عام 2016. وتفترض الاستخبارات الغربية تورط جهاز GRU في إطلاق صاروخ على طائرة الركاب الماليزية MH 17، وكذلك محاولة انقلاب فاشلة في جمهورية الجبل الأسود، التي أصبحت اليوم عضواً في حلف الأطلسي (ناتو) وهو ما كانت موسكو تسعى بكل الوسائل لتفاديه. ثم محاولة تسميم العميل المزدوج سكريبال. كل هذه العمليات ألقت بظلال من الشك بشأن احترافية هذا الجهاز. فإسقاط الطائرة الماليزية نجمت عنه عقوبات اقتصادية غربية، وحتى هزيمة كلينتون لم يعد يُنظر إليها كانتصار في موسكو. ويتهم الغرب الاستخبارات العسكرية الروسية بالوقوف وراء ما لا يقل عن تسع عمليات قرصنة إلكترونية كبرى شهدها العالم خلال السنوات القليلة الماضية. والهدف من حرب الظل هذه هو إرباك الديمقراطيات الغربية من خلال نشر البلبلة في كل المجالات بدءا بالرياضة والسياسة والاقتصاد وانتهاء في الانتخابات وحملاتها الانتخابية.
الخبراء الغربيون مقتنعون بأن موسكو تملك جيشاً كاملاً من العملاء في أوروبا. فإماطة اللثام عن محركي خيوط الهجوم على البرلمان الألماني ليس نجاحاً معزولاً، فقد تم الكشف عن شبكة من سبع جواسيس روس كانوا يعملون في الولايات المتحدة بين 2014 و2018، استهدفوا الوكالة الأمريكية لمحاربة المنشطات. وفي عام 2018 طردت هولندا أربع ضباط من الاستخبارات الروسية استهدفوا وكالة حظر الأسلحة الكيماوية في لاهاي. كما تم الكشف عن المشتبه بهم في محاولة قتل سيرغي سكريبال، بجوازات سفرهم وصورهم وحتى عنوانين سكنهم في موسكو. وكان سكريبال جاسوسا سابقًا للمخابرات الروسية، اُعتقل عام 2006 في موسكو وحُكم عليه بتهمة “الخيانة العظمى” لتجسسه لصالح لندن. وفي عام 2010، عقدت موسكو وبعض الدول الغربية صفقة تبادل جواسيس شملت سكيربال، قبل محاولة تسميمه هو وابنته في الرابع مارس/ آذار 2018 بساليسبري في بريطانيا.
ألمانيا مسرح لنشاط استخباراتي دولي محموم
وفقا لعدة تقارير، هناك نشاط متزايد لأجهزة الاستخبارات الخارجية فوق الأراضي الألمانية، لعل أبرزها في الوقت الراهن روسيا والصين. والسبب موقعها الاستراتيجي كبلد محوري في الاتحاد الأوروبي، عضو في حلف شمال الأطلسي ومركز لعدد من الشركات التكنولوجية الرائدة في العالم. وتقدر أجهزة مكافحة التجسس الألمانية بالمئات، عدد العملاء الأجانب الناشطين في البلاد. ويشمل هذا النشاط التجسسي قطاعات واسعة منها دوائر صنع القرار السياسي، واستكشاف الأسرار الاقتصادية والتكنولوجية والتجسس على مواطنيهم المقيمين في ألمانيا. ويتنكر عملاء الاستخبارات الأجانب في وظائف مختلفة، إما في سفارات بلادهم، وأحيانا كمهاجرين غير شرعيين أو علماء أو رجال أعمال أو سياح مزعومون.
وتتكبد الشركات الألمانية خسائر بمليارات اليورو كل عام بسبب التجسس الصناعي من قبل وكالات الاستخبارات الأجنبية، بمن فيها وكالات الاستخبارات الأمريكية. حجم التجسس الصناعي والتكنولوجي الأمريكي في ألمانيا انكشف بشكل خاص، بعد تحليل الوثائق التي سربها إدوارد سنودن، حيث يستهدف النشاط التجسسي جميع الشركات الألمانية الكبيرة تقريبًا.