( إلى السيدة السورية التي راحت ترددها أمامي وهي تبكي، بكل كبرياء البشر وعزة نفوسهم، فقدانها زوجها وكلا ابنيه )
أعلم أنه لا معنى لها، فما حدث قد حدث، ولا يقولها سوى إنسان لا علاقة له بالسياسة ولاحتى بالمنطق. وأنا في الحقيقة، كما يؤكّد الكثيرون، لا علاقة لي بالسياسة، وربما بات لا علاقة لي بالمنطق.. فلولا ذلك لحملت نفسي وغادرت..أو على الأقل..خرست.
أعلم أنها لا تقدم ولاتؤخر، لا تضر ولا تفيد. بل، يرى البعض أنها تؤخّر وتضرّ. تضرّني أنا دون سواي، فهي بالنسبة لي أشبه بجلد للذات. ذلك أنني قضيت الخمس سنوات الماضية وأنا أحاول أن أصدّق وأجعل الآخرين يصدقون بأن الأمور ستصطلح وأنها لا ريب ستمضي قريباً في الطريق الصحيح..وأنه لا بد من نهاية مضيئة لهذا النفق المظلم.
ألست القائل:”يحيا السوريون بانتظار الفجر”.
أرجوكم لا تعيدوا أمامي.. ما حدث كان محتماً.. لم يقرره أحد.. لم يخطّط له أحد.. شاهد السوريون، أخوتهم في تونس ومصر وليبيا واليمن، يخرجون ويتظاهرون.. ففعلوا مثلهم. ذلك أنّي يوماً لم أصدق، وذلك خلاف الكثيرين، الذين كانوا يرددون تلك الاسطوانة المنخورة: “الشعب السوري مفسود… الشعب السوري مرعوب…الشعب السوري مخصي”.
وإن لم يسمحوا لأنفسهم بقولها، من كتبوا:”لم يساعد العالم بتغيير سورية للأحسن، سورية غيرت العالم للأسوأ” ومن راحوا يرددون: “خذل العالم الشعب السوري” ومن اعترفوا: “تحمل الهجرة السورية شعوراً ثقيلاً بانعدام الأمل” ومن يقولون بكل حيادية: “ليس في الأفق السوري بارقة رجاء”.. فها أنا أتبرع وأقولها عنهم جميعاً:”..ليتها لم تكن”.
كتبت هذا النص، وأرجأت نشره زمناً… ولكن هناك في روحي النازفة، في قلبي المعصور بقبضة حجرية متفحمة، بضميري الذي حرصت أن أبقيه حياً وأميناً وحراً طوال هذه الجلجلة، طوال هذا الموت السوري اليومي الذي لا يشبع، ما يدفعني لأصرخها: “ليتها لم تكن”!؟
مرة…زفرتها أمام أصدقاء مقربين، فصمتوا أوّل ما سمعوها وكأنّني تلفّظت كفراً، ثم بعد ذلك راحوا يعذرونني:”تقولها من ألمك..غيرك يقولها لغايات..لا بأس بأن تقولها أمامنا ولكن إياك أن تقولها أمام آخرين!؟” لكن أحدهم صاح بي:”أتريد أن يعود الناس إلى بيوتهم..أهذا ماتريد!؟” أجبته بصراخ: “نعم أريد عودة السوريين إلى بيوتهم.. إلى وطنهم.. وليت بقي للسوريين النازحين والمشردين والمهجرين.. بيوت..ووطن..يعودون إليه!؟”
ليت لم يقتل أطفال زملكا وعين ترما والمعضمية.. ليت لم تحدث مجازر البيضا ودوما وخان العسل وعرامو.. وليت لم يقتل نصف مليون سوري، أتظنونه رقماً مبالغاً!؟ هناك من يقول (مليون) من قتلى الأطراف كلها، من السوريين كلهم، عن عشرات ألوف المفقودين ومجهولي المصير!؟ داخل سورية وخارجها، الآن أقرأ: “/10/ آلاف طفل سوري مفقود في أوروبا، وذلك من أصل /26/ألف طفل دخلوا أوروبا دون مرافق..قتلى الأوبئة والجوع والبرد..والغرق والانتحار.
يوم استشهد باسل شحادة..قلت لياسين: “سورية كلها لا تساوي باسل شحادة”.. ويوم استشهد مجد علي.. صاحت سوزان:”أخي ليس شهيداً..لم يكن يريد الموت، كان يحب، أبتاع منذ يومين قميصاً وبنطالاً” ويوم وصل جثمان حسن أزهري على شكل ورقة عليها ختم، بكيت على كتف أبيه.. منذ ثلاث سنوات أم عصام زربا تنتظر خبراً عن ابنها المخطوف!؟ وكذلك حلبجة خليل.. ومازن مرعي.. ووسام سارة.. وسوسن حقي.. وميري زريقة.. وناجي الجرف.. والأب باولو.. والأب فرنسيس.. وماذا عن عبد العزيز الخير ورجاء ناصر وماهر طحان وإياس عياش، ماذا عن آلاف المعتقلين هنا وهناك، ليت أحد يخبرني أين هم الآن رموز الثورة السورية الحقيقية.. رزان وسميرة ووائل وناظم!؟
ليت لم تهدم المدن السورية الأعزّ، ولم تبد بلدات وقرى سورية لم نكن نعرف أسماءها.. ليت لم تهدم حميدية وخالدية حمص، وخانات وأسواق حلب، حلب مأساة القرن الواحد والعشرين، سمعت بإحدى الأقنية التلفزيونية العالمية.. ليت لم يتهدم جسر دير الزور الذي كان مرسوماً على الليرة السورية التي هدمت بدورها، أي دير الزور بقيت في سورية!؟
ليت لم يشرد وينزح ويجوع /12/ مليون إنسان من الشعب السوري.. نعم، طالب السوريون بالكرامة، ولكنهم الآن يتوسّلون العالم، بل يتسوّلونه.. السوريون المعروف عنهم اعتدادهم بهويتهم وتباهيهم بسوريتهم، باتوا متسوّلي العالم وأذلاءه. في مصر.. بلد المتسوّلين، السوريون يتسوَّلون!؟.. أمّا في لبنان، الذي حكمه السوريون ثلاثة عقود، هاهم السوريون لا يجدون سبيلاً لإطعام عوائلهم سوى بيع أطفالهم بحفنة من الدولارات.
ليت لم يغادر سورية، هيثم وأسامة وهالا وهالة ورشا وحازم ولقمان ورائد وقيس وخضر وعبد السلام وسمر وروزا وفارس وفؤاد وزهير وخلف وعماد وعارف وعمر وتمّام وهاشم ومظفر ومالك وياسين ومنذر وعلي ودانيال وجميل وفايز وعبد الحكيم وحسان وعزّة وراتب وعامر وعماد وطارق وعبد القادر ومحمّد ومنصور وعبود وزياد ونهاد ومصطفى وجورج واسبيرو وروبيك وفيكين وغادة وشادي وحلا وغازي وسهل ونجيب وندى…نعم..أعرف أصحاب هذه الأسماء كلها شخصياً، منهم أصدقاء حميمين، ومنم شعراء وروائيون ورسامون ومصورون وممثلون ومخرجون.. ربما، أجمل وأروع من ولدتهم سوريا في تاريخها الحديث، ولكن يحمل كل اسم منها عشرة آلاف سوري غادروا سوريا دون أمل بعودة..؟؟
صديقي (…..) لا أظنك نسيت.. رغم أنه جرى بعد هذا ماء كثير موحل وآسن.. واندلق دم كثير أحمر وساخن.. وصعدت إلى السماء أرواح زرقاء ومضيئة.. وبات كما عبّرتَ: “لم يتوقع أحد أن تصل الأمور إلى هذا الحد” ما قلته لي أواسط العقد الماضي: “لتبقى سورية تحت هذا الحكم مئتي سنة، ولايحدث فيها ما حدث للعراق”.. وهاقد حدث لسورية ما حدث للعراق، وربما أسوأ، والطرف الثاني من المعادلة هو هو.
(ليتها لم تكن).. أزفرها مع المكلومين، ومع الأيتام، والمشردين، والغرقى.. مع أربعة ملايين سوري يعانون ضنك العيش في مخيمات الذل والهوان.. (ليتها لم تكن).. أزفرها مع البسطاء الخائفين، الذين لليوم لا يعرفون ماذا سيكون مصيرهم ومصير أبنائهم. وعندما يسألون أحداً ما ليطمئنهم، يجيبونهم: “مازال هناك ثمن كبير عليكم أن تدفعوه!؟” مع الذين يقولونها في قلوبهم خمسين مرة باليوم، إلاّ أن يأسهم أخرسهم.. مع الذين يستيقظون من نومهم ويتمنّون لو أن ما حصل كان كابوساً آخر كبقية كوابيسهم.
لا أدعي أية بطولة، ولا أمنن أحداً بشيء، لكني لست من يدير ظهره لبلده وشعبه ومدينته، لا اليوم ولا غداً.. أنا لم أتغير.. ولن. ويوماً لن أكون إلاّ واحداً من السوريين الذين صدّقوا وحلموا بسورية وطناً موحداً.. وطناً حرّاً وكريماً وعادلاً لجميع السوريين دون تفرقة وتمييز.. وطناً لايحتاجون فيه للحروب والثورات والتضحيات والشهداء، وطناً آمناً لهم ولأبنائهم، لايضطرهم للنزوح والتشرد و…الموت!؟
ولكن.. ولكن.. أين للسوريين بعد الآن وطن كهذا!؟