لافتات سرية ..لـ: جهاد الدين رمضان

جهاد الدين رمضان
كاتب سوري

تعودت في حياتي الدراسية على المشاركة “الطوعية” في احتفالات و مسيرات و مظاهرات الأعياد الوطنية و التنديد بأعداء الوطن اللئام ، و لا يخفى على أحد من السوريين بأن تلك المشاركات الطوعية ليس لها من اسمها سوى العكس، اسمها طوعية لكنها إجبارية في الحقيقة، و لحسن حظي لم يكونوا يخرجوننا في مظاهرات خارج المدرسة في المرحلة الابتدائية، كانوا يكتفون باحتفالات رسمية في باحة المدرسة، يلقي فيها بعض الأساتذة خطابات حماسيات، و قد يختاروا أحد التلاميذ النجباء ليلقي كلمته باسم التلاميذ، كما انتدبوني في الصف الخامس الابتدائي لإلقاء كلمة في عيد الأم، و كل ما ينبغي على التلاميذ التصفيق للخطيب، و تحية العلم مع الهتاف بشعار الحزب الحاكم، و أذكر في هذه المرحلة كيف نهتف سراً :

أمة ، حرامية ، نشترية

و ذلك كنوع من الاحتجاج السلمي السري ضد شعار البعث (وحدة، حرية، اشتراكية).

و من المرحلة الإعدادية و ما بعد، بدأنا نخرج طوعاً (بالعصا) في مسيرات التأييد و مظاهرات التنديد ، كانوا يقنعوننا (بالزوق) بضرورة التعبير بكامل حريتنا عن محبتنا للقائد و إعجابنا بحكمته و منجزاته و بطولاته، و بالمقابل علينا أن نسبّ و نشتم العدو الصهيوني، و كل المتآمرين على سلامة الوطن للبرهان على إخلاصنا و ولائنا للوطن و سيد الوطن، نخرج من المدرسة مشياً على الأقدام حتى نصل إلى ساحة “سعد الله الجابري” في مركز مدينة حلب، نحمل الرايات و اللافتات، و نردد الهتافات كما هو مرسوم لنا، و ويلٌ للمتخاذلين.

كنت حتى بداية المرحلة الثانوية في أول الثمانينات من القرن العشرين صاغر الخدين للمسؤولين عن تربيتنا و تعليمنا ( كوادر وزارة التربية والتعليم)، و هكذا كان حال معظم زملائي المسالمين، و كان الغضب يعتمل في نفوسنا و لا نجد له تصريف، لكن سن المراهقة و طيش البلوغ يزيد الفتى غضباً، و يقلل من قدرته على الطاعة و الخنوع تحت قيد الحلم و الصبر، و تزيد رغبته في الصراخ و تحطيم القواعد أو المقاعد لا بأس (فعلناها مرةً و جعلناها وقوداً لمدفأة الصف) ، و للتنفيس عن بركان الغضب المخبوء تحت الرماد، خرج بعض الغاضبين جداً من زملائي في مظاهرات التنديد بالفساد، حملوا لافتات علنية صريحة، و هتفوا خلف أصحاب اللحى و العمامات بصوت هادر :

لا دراسة ولا تدريس حتى يسقط الرئيس

لم يسقط الرئيس بل سقطت البلاد في حقبة سوداء لم تُشفَ من جراحها حتى اليوم، و سقط شباب مثل الورد في برك الدماء و عفن أقبية الخفاء… بعض التلاميذ عقلتهم عدة أسباب لعدم تقليد

غيرهم ممن سبق ذكرهم، و آثروا التنفيس عن غضبهم بطرق أخرى، و مازلت أذكر تلك الأيام على زمن المدير الأستاذ “يموت” في ثانوية “الشهداء” مدرستي في الصف الأول و الثالث الثانوي في حي “الفردوس” جنوبي حلب، إذ كنت و بعضهم نكتب لافتات سرية على ورق الدفاتر و نجعلها طائرات و صواريخ تطير في باحة المدرسة، و تدخل إلى غرف المدرسين و المدير و الموجه من النوافذ المفتوحة، يصادروها و يمزقوها بعد قراءة ما فيها من كلام خطير، و أحياناً نكتب بالطباشير شعارات و هتافات على جدران الباحة الخلفية في السر، و نحلم بحمل تلك العبارات في لافتات احتجاج علني، و للمزيد من إغاظة المدير الأستاذ يموت، نقف قرب غرفته و نصرخ بصوت عال :

يسقط المطر من السماء

يعيش السمك في الماء

“يموت” السمك في الهواء

نصرخ هكذا بسرعة ثم نهرب متفرقين كل من طريق إلى غرفة الصف، يخرج المدير “الاستاذ يموت” المغتاظ من غرفته لكنه لا يستطيع اللحاق بنا، يطلب من الآذن البدين “أبو غازي” محبوب التلاميذ أن يلحق بنا، يتظاهر بطاعة الأمر، لكنه يتراخى بتنفيذه في حقيقة الأمر…

و في دورة الحياة نسيت اللافتات و الهتافات بعد إنهاء دراستي المدرسية، لكن في المرحلة الجامعية أُجبرتُ على تذكرها خلال معسكرات التدريب العسكري الجامعي فقط ، ففي الوظيفة كنت أستطيع التملص من حضور احتفالات المناسبات الوطنية، و كانت طبيعة وظيفتي في السكك الحديدية السورية تترك لي هامشاً من الحرية لا بأس به، يوم أعتذر بسبب السفر في القطار، و يوم اعتذر بسبب مناوبتي الليلية في مكتب الأمتعة، و يوم آخر يكون يوم راحتي التعويضية عن دوام الليل، و هكذا دواليك حتى يأتيك الموت يا تارك الصلاة.

لكن الذي ذكرني بلافتاتنا السرية هو زميلي “زيد” في الجيش، ففي في دورة “الأغرار” رقم عشرين جامعيين في مدرسة الشرطة العسكرية بدمشق، في ربيع عام ١٩٨٩ التي استمرت حتى الخريف، كان خريج كلية الحقوق يخدم العلم كضابط صف (رقيب أول) رتبته في الدورة عريف مجند، لكن زملائنا السابقون خدموا العلم برتبة ضابط مجند (ملازم) كاملة، و بعضهم درّبنا في المدرسة رغم التساوي في الشهادة الدراسية ، و من سوء حظ زميلي زيد أن أحد هؤلاء الضباط المجندين – زملينا في كلية الحقوق – له ثأر شخصي معه من أيام الجامعة، فكان يقسو عليه في حصص “النظام المُنضّم” و الرياضة البدنية، و ذات يوم أخطأ زميلي زيد في مشيته العسكرية في درس النظام المُنضم المسائي، حينها فتح الملازم المجند صاحب الثأر نيران غضبه المضادة

للدروع البشرية على الزميل زيد، جعله ينبطح و يقلد مشية البط، و أجبره على أداء مئة تمرين ضغط، و جعله يركض حافياً حول باحة المدرسة الخلفية حتى تورمت قدماه و فقفق الجلد كأنه فقاعات ماء يغلي و يفور، لم ينطفئ حقد المدرب على زيد إلى هذا الحد، فقد دخل الليل علينا و قرضنا البرد و الملازم لا يصد ولا يرد، طلب منا (جميع أفراد المهجع) أن نشلح ثيابنا و نبقي على الشورت، نفذنا أمره إلا زيد، و ها هنا بدأت مصيبتنا مع عناد زيد و تعنت المدرب، و نحن شبه عراة نرتجف من البرد لا الخوف، و نشاهد المسرحية بين زميلنا و مدربنا بدهشة و صمت و ذهول :

يقول المدرب : اشلح يا زيد بنطالك لا يكفي “عاري الصدر” فقط ، اشلح على طاق الشورت، هذا أمر.

رد زيد : لست مستعدا.

كرر المدرب : أقول لك اشلح، هذا أمر عسكري.

يرد زيد بعناد : سيدي ماني مستعد نفسياً. اطلب مني ما تشاء إلا أن اشلح البنطلون.

يعيد المدرب بعناد زاد عن حده : قلت لك هذا أمر عسكري، و عليك تنفيذه في الحال دون مجادلة أو اعتراض.

يرد زيد بهدوء عجيب : سيدي لا اعترض على هذا الأمر، لكنني لست مستعداً لتنفيذه ، مستعد لإحالتي للمحكمة الميدانية و السجن و لا اشلح بنطلوني.

يناور المدرب قليلاً : لك يا مجند يا زفت، لازم تكون على استعداد دائم لتلبية نداء الوطن في أي وقت، نفذ ثم اعترض أليس هذا قانون الجيش؟.

يجيب زيد بذكاء : على راسي و عيني الوطن، و مستعد لتلبية ندائه و الموت في سبيله في كل وقت، لكن هل من الضروري أن أشلح له على طاق الشورت؟ أيدعوني للحرب أم للحب؟

المدرب : يا عسكري تأدب، اشلح و بلا فلسفة و علاك مصدي .

زيد : ماني مستعد نفسياً يا سيدي، و سألبي أي أمر آخر و أنفذه بكل ود.

المدرب : اشلح و بس، هذا هو الأمر…

و هكذا استمر الحوار العقيم طول المساء، و فوّت علينا وجبة العشاء، قاربت الساعة على العاشرة ليلاً موعد قطع الكهرباء عن المهاجع لإجبارنا على النوم الباكر، فانتخى عريف المهجع و قال للمدرب : يا سيدي رايحة الساعة تصير عشرة إلا ربع، دخيلك خلّنا ننصرف على ضوء، أحسن ما نتفشكل (نعثُر) ببعض في العتم، و نسقط عن الدرج من ثالث طابق على الأرض .

كأنما كان مدربنا ينتظر الفرج عندما سمع بحجة الظلام و السقوط عن الدرج، فأسقط بين يديه من كثرة ما نال منه الغضب و التعب من جدال زيد العنيد ، و قال لنا متصنعاً النصر :

لقد عفوت عنكم يا جبناء ، هيا اِلبسوا ثيابكم و انصرفوا إلى المهجع للنوم ، و لن أنام عن عصيان زميلكم زيد في الغد.

نمنا ليلتها بدون هز، و اهتزت جوانحنا خوفاً من اختفاء زيد في أي حبس، و نسيناه في آخر الدورة مع دورة الأيام، و انقطعت أخباره عني في دمشق، و شاءت الصدف أن ألتقيه ثانية في تركيا بعد هروبنا من الدمار و الدم، كان ذلك في عام ٢٠١٤ في اسطنبول ، سلمت عليه بحرارة و دعوته للغداء في مطعم سوري جديد، و سألته ما حكاية الشورت؟ و أين اختفى بعد يوم العصيان، و لماذا لم يشلح البنطلون في ذلك الزمان؟

ضحك زميلي زيد رغم كل الحزن، قال لي :

– يا زميلي العزيز، تلك أيام مضت بكل مساوئها ، و ما نراه هذه الأيام من سوء يجعلنا نتحسر عليها، انظر إلى هذا الدمار و الخوف و الموت.. الله يرحم أيام الشرطة العسكرية و ظلم المدرب بجانب هذا الظلم.

– نعم صحيح، ما كنا نحسب بأننا سنصل إلى اليوم الذي نتحسر فيه على بشاعة الأمس، لكن الحمد لله على سلامتك في كل حال.

– الله يسلمك يا جهاد، و شكراً على السؤال و الزاد، و سأجيبك عن سر اختفائي و حرصي على عدم كشف الشورت للعيان، كنت أفضل أن أكشف عن عورتي ولا أكشف سر الشورت الخطير.

– اف، ما هذا السر العجيب ؟ و الله لقد شوقتني لمعرفته أكثر من الأمس.

– يا سيدي تاني يوم بعد العصيان، و من طلوع الشمس سبقت المدرب إلى مكتب العميد، و كنت أول من يستقبله من العساكر في ذلك اليوم ، أديت له تحية عسكرية قوية كطلقة المدفعية، اهتزت لها الأرض و تمايلت طاولة مكتب العميد، و قلت له بمزيج من الدموع مع كلماتي المرتعشة :

سيدي العميد، تلقيت نبأ وفاة أمي في منتصف الليل، و لم أنَم حتى هذا الوقت، بالله عليك يا سيدي أعطني إجازة و لو ليوم، حتى أودعها و أحضر مراسم الدفن.

حنّ علي العميد و أعطاني إجازة ٧٢ ساعة (ثلاثة أيام) ذهبت فيها من فوري إلى الحمام في البيت لتبديل الشورت ، لم تمت أمي و لا هم يحزنون، لكن الشورت اللعين إذا انكشف أمره قد يقودني للموت.

– اف، ألهذه الدرجة كان الشورت خطيراً؟

– نعم، لقد كان لافتة من لافتات الحزب في الأساس ، عليها صورة القائد مكتوب تحتها (إلى الأبد، إلى الأبد يا قائد البلد) ، كنت قد سرقتها من أحد احتفالات النصر بالجامعة، جعلت من صورة الزعيم لباساً يستر عضوي الحميم، و قصيت الكتابة القديمة، و كتبت بدلها بالخط العريض من الخلف :

( إلى الجحيم يا زعيم )

و بسبب خوفي من انكشاف أمر الشورت إذا شلحت، عاندت المدرب و لم أذعن للأمر مهما كلفني، و من يومها دبرت واسطة كبيرة و انتقلت على غير قطعة عسكرية لأتخلص من المدرب المزعج .

– لله درك على هذه الفكرة المميتة، لم أسمع بحياتي مثل هذه الطريقة العجيبة للتظاهر! ألهذه الدرجة بلغ بك القهر؟!

– نعم إلى هذا الحد وأكثر ،هل تعلم أن الحمام و المرحاض هما المكان الوحيد الذي أعبر فيه عن رأيِ بحرية و صدق!

– و مازلت محتفظاً بذلك الشورت / اللافتة السرية إلى اليوم؟

– لا، للأسف أحرقته يومها في “التنور” بالسر، لكنني أحرقت صور الزعيم الأب و المتزعم الابن، في الشارع عام ٢٠١١ علناً و بكل فخر ، قبل أن يحرق البلد بنيران الحقد عندما أطلق هذا الشعار :

(الأسد أو نحرق البلد)

( الأسد أو لا أحد )


نشترية :الحرامية من يمتهنون السرقة و من بينهم فئة النشترية ، و هم صنف من اللصوص يسرقون الضحايا في العلن بالخفة و الشطارة و الخطف. و الصورة المرفقة من أعمال الفنان السوري موفق قات المتوفرة في شبكة الإنترنت المشاع.

يقول محدّثي :
لمّا تخرج الكلمة للعلن …فلا سلطة لك عليها …
كل يرميها بسهم عينه ..

 

ماهر حمصي

إبداع بلا رتوش
إشترك في القائمة البريدية