قرأت في عالم الغرابة أن الجندي البسيط سيكستو مارتينيث روى ذات يوم أنه قضى خدمته الإلزامية في ثكنة في إشبيلية، وهو يشاهد طيلة الوقت وسط ساحة الثكنة كرسيا صغيرا فارغا يحرسه جندي.
لم يعرف مارتينيث ولا أي أحد لماذا كان ينبغي أن يُحرَس ذلك الكرسي على مدار الساعة.
وذات يوم أراد شخص ما، جنرال أو كولونيل، أن يكتشف سبب الأمر. فكان عليه أن ينبش في الملفات. وبعد وقت طويل من البحث، عثر على الجواب. فمنذ واحد وثلاثين عاما وشهرين وأربعة أيام، أمر ضابط حارسا أن يقف قرب كرسي كان قد دُهن لتوه، لكي لا يفكر أحد بالجلوس على الدهان الطري. وهكذا، وفي كل يوم، ومن جيل ضباط إلى آخر، كان الأمر يصدر والجنود ينفذونه. لم يعبر أحد عن أي شكوك أو يسأل لماذا. ولم يصدر أحد منذ تلك اللحظة البعيدة أمرا مناقضا.
هذه الحكاية رواها إدواردو غاليانو. ولكنها لا تعبر فقط عن سطوة البيروقراطية، بل عن انعدام روح المبادرة لدى الأجيال التي تعاقبت على الكرسي وحراسته.
الأمر ذاته ينطبق على بقية عادات وذهنيات البشر. فمن ذا الذي يعرف كيف اتخذت هذه العادة أو تلك، أو ذلك التقليد المهني أو العلمي أو ذاك، كل هذا الرسوخ في وعي الناس.
إن زمن الخضوع التام للأوامر زمن مضى وانقضى، ليس لأن التمرد سمة هذه الأيام. بل لأن الحرية في تلقي المعلومة هي بصمة هذا العصر. ومن يتلقى بحرية لن يبقى يراقب الكرسي الفارغ إحدى وثلاثين سنة دون أن يفكر بالتساؤل عن الموضوع.
وفي ذات العالم الغريب، عثرت على لعبة ذهنية تمارس عليك عزيزي القارئ، دون أن تشعر. إنها ما تسمى علمياً بـ”مغالطة رجل القش”. وهي تقوم على إيهام رهيب يطبقه عليك من يريد التحكم بعقلك، من خلال خلق فكرة ثانية موازية للفكرة التي تريد أنت طرحها، فكرة مثيرة للذعر تجعلك أنت ومعك الآخرون تصرفون النظر عن أي شيء سواها.
ويضرب علماء الاتصال البشري مثالاً على ذلك بهذه الصورة؛ أنت تقول “برأيي يجب زيادة ميزانية وزارة التعليم العالي” فيجبيك الآخر “وهل تريد أن ننقص من ميزانية وزارة الدفاع في هذه الظروف الخطيرة؟”. فتجيب “لم أقل إني أريد إنقاص شيء” ولكن ريثما تبرهن على أنك لم تقل هذا، يكون الموضوع قد تحول إلى شيء آخر، ونكون قد انتقلنا إلى ملفات أخرى.
سميت هذه اللعبة المنطقية بمغالطة رجل القش لأنها تستمد عملها من فزاعات القش التي تخيف الطيور في الحقول. بالضبط كما كان يفعل ذلك الكرسي الوحيد الفارغ.
صحيفة العرب اللندنية
05/10/2018