لم يكن صوتُهُ الذي يدلُّ على عمره ، تماماً كما سمعته البارحةَ عبر الهاتف . توقعتُهُ شاباً يخيّمُ على أول الثلاثينات ، وربما قبلها بقليل . قال إنَّ به رغبة شاسعة لاحتساء كؤوس عرقٍ دسمات بحانة زوربا ، وسأل عن البنت الدلّوعة عبير ، ونادل الحانة الطويل الذي نزل بها ، مخلّفاً وراءه أيام وأزقة أثينا المعتقة ، والرجل العريض الذي يشبه جورج حبش ، والشحاذة النظيفة التي تطحن مؤخرتها البارزة وتحكّها بسور المائدة ، من أجل كأسٍ فائضةٍ ، ونصف دينارٍ يزرعه الجائعون ، في الساقية الباذخة بين ثدييها الضخمين ، وماعون الزلاطة الكبير المعفّر بالزعفران والسماق والليمون البلدي العاطر ، وأشياء أُخرى نسيتها الآن .لم أنجح في إقناعه بأنَّ ما يتحدث عنه ، هو فقط من مخيالٍ منثورٍ على جسد قصة قصيرة ، كنت كتبتها قبل عشر سنين ، لذا تركتُ الأمر لمجلس الخمرة الدابّة ، ومغنّي المكان الذي سيبدأ ليلتَهُ بعبد الحليم حافظ وصباح فخري وليلى كاظم الساهر ، وحتماً سيستجيب لأنين السكارى الطيبين ، فيقتلهم بموالات رافدينية عجيبة ، ستكون كفيلة بتنشيف ما تبقى من دماء القلوب المفطورة بالحنين .
استوطنّا مائدةً منزويةً محروسةً بتمثال السيّدة ، وشيت عملاق لراقصة شرقية كأنها تحية كاريوكا ، وحائط معمول من زجاج شفاف ، يسمح للبصّاصين النهمين ، بقنص أثاث الزقاق البائس ، الذي بدا الليلةَ مثل حمّامٍ مهجور نائم على رائحة السابحين القدامى .لمْ تأتِ عبير الرائعة ، ولا السائحات الأجنبيات البخيلات ، وغاب مطرب الحانة وبهجتها ، وتمَّ استبداله بأُغنياتٍ من الصنف الذي قد يصيب طبلة الأذن بعطبٍ عظيم .ثمة رائحة شواء تهبُّ الآن من مطبخ رشدي . رشدي نادلٌ طيّب ، يحبُّ الأدباء ويعلم ما في جيوبهم المثقوبة أبداً ، ونحن جدُّ ممتنّين لتأويلاتهِ الإستطعامية الباذخة ، التي لا تكلّف الجيبَ إلّا وسْعَهُ .الليلةُ تأكل نفسها بنفسها ، وسوّاق السرافيس البيض يبحثون عن رزقٍ ممكنٍ ، بعد نوم شرطيّ المرور ودفتر العقوبات .جليسي وسميري المسالم كان كريماً جداً ، ولم يغضب لأنني لم أُتمم عليه الحكاية ، إذ تباطأتُ وتلكأتُ حتى فزَّ ديكُ الصباح المخلّص .