أثارت المعلومات المتداولة أخيراً حول تصوير المخرج اللبناني أحمد غصين، لمشاهد من فيلمه الجديد “جدار الصوت”، الذي لم يعرض بعد، في مدينة القصير السورية، جدلاً واسعاً في مواقع التواصل الاجتماعي وفي الإعلام السوري البديل عموماً، من ناحية “الانحدار الأخلاقي” المستمر في التعامل مع الثورة السورية، والذي وصل إلى حد اعتبارها حدثاً مفيداً ساهم في تحويل مناطق شاسعة في البلاد إلى استوديوهات سينمائية وتلفزيونية مفتوحة رخيصة التكلفة.
وفيما حُذفت لقطات تظهر التصوير في القصير، من المواقع الإلكترونية التي تروّج للفيلم، وعدم تعليق غصين على القضية بعد، فقد عادت مسألة ارتباط الفن بالسياسة إلى الواجهة من جديد، وصولاً للحديث عن الغاية من الفن كمحدد لأخلاقية أصحابه. فالفيلم الجديد يتحدث عن حرب تموز 2006 بين إسرائيل و”حزب الله”، لكن المفارقة أن غصين يستغل الدمار الذي مارسه “حزب الله” تحديداً في القصير، لإيصال رسالة بشأن الدمار الذي تعرض له الحزب، ولبنان بالمجمل، خلال الحرب مع إسرائيل، التي كان الحزب نفسه متسبباً فيها من دون طائل على الأغلب. علماً أنه من المستحيل على غصين أن ينجز عملية التصوير في الداخل السوري من دون تنسيق مع النظام و”حزب الله”.
ويشكل الفيلم سابقة من ناحية تصوير أعمال عربية في أنقاض المدن السورية التي خلت من سكانها وتدمرت بفعل سياسة الأرض المحروقة وآلاف البراميل المتفجرة التي ألقيت عليها. لكن استغلال الدمار في سوريا لتقديم أعمال درامية ليس جديداً، إذ قدمت دراما النظام السوري العديد من الأعمال التي صورت بين الأنقاض خلال السنوات الماضية. ويقدم صناع هذه الدراما، التي تنقل بروباغندا النظام وسرديته للحرب في البلاد، مقاربة عجيبة، بتشبيه أعمالهم بعد العام 2011 بسينما الواقعية الإيطالية الجديدة، وهي تيار سينمائي ظهر في إيطاليا خلال الحرب العالمية الثانية.
لا يمكن الرد على هذه المقاربات سوى بالضحك والاستهزاء وحتى الاحتقار، فالواقعية الإيطالية الجديدة اعتمدت على تصوير بؤس الطبقات الفقيرة في المجتمع والاقتراب من روح السينما الوثائقية بالتصوير الخارجي والاستفادة من ممثلين أقل شهرة لتعزيز هذه الروح البسيطة التي تستمد إلهامها من شعور نبيل بالانتماء للطبقة المسحوقة في المجتمع بفعل الفقر والحرب، وتصوير التفاصيل الصغيرة اليومية لا أكثر.
بعكس ذلك، لا تتشابه الدراما السورية مع تلك الأفلام سوى في التصوير الخارجي، وهي خاصية قديمة في الدراما السورية التي لم تتوفر فيها استوديوهات للإنتاج حتى لتصوير المسلسلات الكوميدية البسيطة “سيت كوم”، مع بعض الاستثناءات المعدودة. ولا تستحق تلك الخاصية أي مديح، بل على العكس هي دليل على عشوائية “الصناعة” الدرامية في سوريا التي بقيت رهينة للإنتاج الخارجي، الخليجي، أو لشركات محلية بإمكانيات محدودة. فيما لم تقدم “الدولة السورية” التي يتغنى فنانو النظام بالازدهار الذي كانت تمثله مقارنة بـ”ظلامية المعارضة”، أي خطوات مساعدة لتأسيس تلك الصناعة بالأساسيات، كاستوديوهات التصوير على الأقل.
وللدلالة على ذلك، يمكن الإشارة لتصريح المخرج أحمد إبراهيم أحمد: “تنفق الشركات العالمية آلاف الدولارات من أجل صناعة ديكور دمار أو تمثيل مشهد حربي. أما هنا فلا ننفق شيئاً، أرضنا أصبحت مسرحاً درامياً حياً”. بينما قال المخرج الآخر سمير حسين، خلال تصويره مسلسله “فوضى”، العام 2018 وهو واحد من أسوأ ما قدمته الدراما السورية في تاريخها: “أبهرني مشهد الدمار في مدينة داريا، واستفدنا من الأصوات الناجمة عن قصف المدافع وإطلاق الرصاص حتى أننا أدخلناها في مشاهدنا”،علماً أن المسلسل قدم لقطات استعراضية من داخل مدينة داريا إثر سيطرة النظام عليها، لا تخدم قصة العمل وأحداثه بل تشكل فواصل بين المشاهد وتعبيراً عن “الابتهاج بالنصر”، وتم مزجها بلقطات لعناصر من الجيش الروسي وهم يساعدون المدنيين لتجاوز نتائج “إرهاب المعارضة”.
لا يمكن فهم كيف يكون الكابوس السوري المكون من عنصري الموت والعنف الممنهج، مبهراً وساحراً، لكن هذا الافتتان يذكر بالطبع بفلسفة “جمال الشر”
وبالطبع لا يمكن فهم كيف يكون الكابوس السوري المكون من عنصري الموت والعنف الممنهج، مبهراً وساحراً، لكن هذا الافتتان يذكر بالطبع بفلسفة “جمال الشر” التي بنى عليها تنظيم “داعش” دعايته الدموية التي صدم بها العالم عندما أنشأ دولة خلافته المزعومة في سوريا والعراق منذ العام 2014. وهو ما تحدث عنه مصورون تابعون للتنظيم العام 2017. الفرق هنا أن فيديوهات “داعش” كانت تصور الفعل الإجرامي نفسه، مثل الإعدام، بطريقة سينمائية وأساليب تحاكي تلفزيون الواقع. بينما تركز فلسفة فناني النظام على النتيجة نفسها، أي الدمار الذي يعني الموت والعقاب “العادل”، للمعارضين “الخونة”، مع التنصل من الفعل نفسه، في محاولة التنكر بمظهر “نبيل” لبناء سردية توازي الخطاب الدبلوماسي.
والحال أن هذه التصريحات ليست فريدة من نوعها، ففي نيسان/أبريل 2018، كتبت صحيفة “الأيام” الموالية للنظام مقالاً بعنوان “دوما لوكيشن” دعت فيه إلى تحويل المدن السورية المدمرة إلى مسرح حي في الهواء الطلق وإلى استوديوهات تروي قصة الحرب في سوريا، من وجهة النظر الرسمية، بغرض تحقيق أثر يتصدى لـ”الدعاية الإرهابية”، خصوصاً أنها رخيصة ولا تكلف ملايين الليرات مثل الاستوديوهات.
الفارق مع سينما الواقعية الإيطالية واضح هنا، فالدراما السورية لا تهتم بالناس وأصحاب البيوت المدمرة والحياة التي كانت موجودة وتم إزهاقها مرة بعد مرة بدم بارد، لأن القصص يجب أن تروي قصة “سورية” (بالتاء المربوطة حكماً)، والصمود والانتصار، وغيرها من المصطلحات التي يكررها إعلام النظام عموماً. وبدلاً من توثيق الحقيقة، أو محاولة عكسها بطريقة فنية على الأقل، تحاول هذه الأعمال الفنية تزوير الواقع بالاستفادة من الصدمة البصرية التي يكفلها وجود الدمار “الطبيعي”، مع التركيز هنا على الأفلام السينمائية التي تتم ترجمتها للغة الإنجليزية، مع أوهام فناني النظام بأنهم سينمائيون مهمون ينتظر العالم إصدار أعمالهم.
في العام 2013، افتتح مخرج النظام السوري الأول نجدة أنزور، هذا التريند، بتصوير ثلاثية من سلسلته التلفزيونية “تحت سماء الوطن” بالقرب من مدينة داريا المحاصرة حينها، كي يستفيد من الدمار الموجود في المكان لإضفاء طابع واقعي، رخيص التكلفة، على العمل المصمم بأكمله لنقل البروباغندا الرسمية حول الحرب في البلاد، بطريقة “فنية”. وعندما سألت شبكة “سي إن إن” أنزور: “هل فكّرت في شعور من يمكن أن يرى منزله المدّمر في خلفية مشهدك الدرامي؟” أجاب: “لقد ذهبت الى داريا لأبحث بين الأنقاض عن أمل. هذه المنطقة جزء من الوطن ومصابها، هو مصابنا جميعاً”، معتبراً أن الهجوم عليه “يصب في اطار الحملة الاعلامية المتطرفة التي يتعرض لها الوطن”.
هذه الأعمال بالطبع لا تنقل قصص المدنيين الذين قتلوا وهجروا واعتقلوا، بل تقدم نسخة مشوهة من الواقع وترقص على الجثث وتسخر من الضحايا بأقبح طريقة ممكنة. ويمكن إعداد قائمة طويلة من الأعمال التي صورت بنفس الطريقة، مثل مسلسل “روزنة” الذي صوره المخرج عارف الطويل العام 2018 في أنقاض حلب الشرقية، أو فيلم المخرج جود سعيد “نجمة الصبح” الذي صوره العام 2018 في أنفاق مدينة دوما، وهو من إنتاج المؤسسة العامة للسينما التابعة لوزارة الثقافة في حكومة النظام. كما قدم نفس المخرج فيلم “مطر حمص” الذي صوره العام 2016 في مدينة حمص القديمة الذي دمرها النظام بالكامل.
وتضمن هذه الطريقة في التصوير ترويجاً سريعاً للأعمال، وخصوصاً في حالة الأفلام “السينمائية” الباحثة عن عرض محدود في المهرجانات، خصوصاً أن أصحابها يروجون دائماً لفكرة الخطر الذي يتعرضون له لإنجاز أعمالهم، وسط الحرب. وهي سردية مزيفة تنتقل بدورها إلى وكالات الأنباء ووسائل الإعلام العالمية التي تغطي هذه القصص اليومية، وتعكس رواية النظام عن “الحياة الطبيعية” في وجه “الإرهاب”، وليس من العبث أن يكون نجدة أنزور بالتحديد، هو واحداً من كبار الشخصيات التي ترافق الصحافيين الأجانب الذين يسمح لهم النظام بدخول البلاد والقيام بجولات معدة مسبقاً تشمل حتماً مواقع تصوير مسلسلات وأفلام سورية.
عن جريدة المدن الإلكترونية ، للاطلاع على الموضوع الأصلي ، اضغط هنا