جرى اعتقاد بأن الحروب في العالم قد وضعت أوزارها بعد الحرب العالمية الثانية. هذا الاعتقاد نفسه، أعقب الحرب العالمية الأولى بأنها حرب تُنهي كل حرب. توقّع الكثير من المحللين بعد تسجيل عدد هائل من الضحايا تجاوز مئة مليون من البشر في حربين عالميتين، أن الحرب لم يعد لها مستقبل في العالم، وأن الحكومات ودّعت النزاعات إلى غير ما رجعة. طبعاً، كان تفاؤل البشر ساذجاً، أو في غير محلّه.
تجدّدت القناعة بانتهاء الصراعات حتى الباردة منها، مع سقوط جدار برلين، وكالمعتاد كانت الدول التي تتحكّم بالسلام والحرب، عند أسوأ ظنون البشرية، فالسلام كان أبعد ما يلوح في الأفق، مع أن الأمور استتبت للرأسمالية المنتصرة، وبدا الغرب آنئذ صانع السلام المنشود، بينما كان يصنع الحروب، وكأن السلام في بلدانه، تصنعها حروب الآخرين في بلدانهم، وفي هذا شطط بدأ يكتسب مع الوقت الكثير من المصداقية.
لم يُخف الغرب تخلّيه عن مسؤولياته، بعدما ترك شعوب “العالم المتخلّف” نهباً للحروب الصغيرة بدعوى أنه يمكن التحكّم بها، طالما أنها محدودة، يسهل إخمادها، مثلما يسهل إشعالها، ولم تكن أكثر من تنازع الدول الكبرى في المحاصصة على ثروات ليست لها، ما كلّف كثيراً من الضحايا حتى أصبحت تبزّ الحروب العالمية.
وفي الإطلالة على الماضي القريب في البلدان التي كانت مسرحاً لحروب محلية صغيرة، سوف تروّعنا ما سجّلته من خسائر بشرية، فأنغولا شهدت حرباً استمرّت عشرين عاماً، ومقتل مئة ألف، أغلبهم من المدنيين، ما يكشف عن ادعاءات الغرب، فالحرب لم يسهل إخمادها، وإن كان إشعالها بين الحكومة والمعارضة سهلاً، أما التحكّم فيها، فكان باستمرارها. كذلك الحروب المحلية الأخرى في موزمبيق والصومال والكونغو ورواندا… هذا في أفريقيا، فما بالنا في كشمير الهندية، ومجازر الخمير الحمر في كمبوديا، والحروب في أميركا الجنوبية؛ كولومبيا ونيكاراغوا. وإذا انعطفنا صوب منطقتنا، ففي منطقة الخليج وحدها، كانت الحرب العراقية ـ الإيرانية التي استمرّت ثماني سنوات، وحرب الخليج الأولى عام 1991.
الحرب لم تكن وسيلة جذرية لتسوية النزاعات
تحيلنا التحليلات الرصينة إلى أن الحرب هي الحل الذي تلجأ إليه الإنسانية كوسيلة جذرية لتسوية النزاعات، بعد استنفاد جميع الحلول البديلة الممكنة، لكن هذه الرصانة تغفل أن الحرب لم تكن وسيلة جذرية لتسوية النزاعات، فالحرب لم تنته إلا لأنه كان هناك منتصر ومهزوم، والحل الذي وضعته لم تُراعِ فيه العدالة، ما أدى إلى نشوب الحرب العالمية الثانية، بعد انتهاء الأولى بعشرين عاماً. فالحرب تترك وراءها رابحين وخاسرين وقضايا إضافية ستكون محل نزاع في المستقبل.
في الدفاع عن الحرب، تبدو مقولة استخدام الشر للخلاص من الشر، أكثرها تداولاً وإقناعاً. بينما المعنى الحقيقي لهيمنة الشر، هو أنه لا مكان للعقل في حل النزاعات، العقل بما هو عامل خير وسلام. إن نفي العقل تبرير سخيف للحروب، يلغي البشر مع أنهم يدفعون أثمانها الباهظة، ويُحمّلهم أسبابها الحتمية على أنها من طبائع الأمور، بالبرهنة على أن الحرب موجودة في الطبيعة أيضاً، تتجلّى في ثوراتها، وما الزلازل والأعاصير والفيضانات، إلا حروب تشنّها الطبيعة بهمجية مروّعة منذ بدء الخليقة، والبشر شهود عليها وضحاياها؛ فالحياة من هذه التركيبة بالذات.
بينما الحروب المحلّية، مستمرة بين الأنظمة الفاسدة والمعارضات الشعبية، تشارك فيها الدول الإقليمية والكبرى، دونما أخذ فساد الأنظمة وشرورها بالاعتبار، بل مصالحها الاستراتيجية ونزعاتها الإمبراطورية. وكان مما أنتجته إحياء تقليد قديم، باستخدام مرتزقة عالميين، أو إعدادهم تحت عناوين دينية، ما يسمح لدول خارجية بالإسهام بالقتل والتدمير من دون أن تُنسب إليها، فأضافت “الكونترا” الأميركية، و”فاغنر” الروسية، والمليشيات المذهبية الإيرانية، وإذا كان في ادعائها أنها غير مسؤولة عن إيجاد فرص عمل للمحاربين عابري الجنسيات، فالمقصود بكل وقاحة، تخفيف المسؤولية عنها كدول تعمل على “إرساء السلام في العالم”.