رنا الأبيض وغزوة ذات الخروق ...
تظهر الممثلة التي توصف بالنجمة وسط الصورة. في الصورة فراغات غير محمودة، كالفراغات بين الدول العربية المتجافية جنوبها عن المضاجع، طمعاً بلحوم بعضها. ثمة بون بين النجمة، وبين النازحين، الذين سعت النجمة المضيئة إلى إسعافهم بقبس من نورها. في أيامنا النحسات، الصورة مع النجوم تشفي الجروح، وتضمد القروح، وتبلُّ الصدى، وتكيد العدى، مع أنها نجوم صناعية.
عدالة المكان وقسطاسه مفقودان في الصورة العسيفة. عائلة من أربعة أفراد، هي أخت، وإخوتها على يمين الصورة، محشورون في زنزانة خانة “اليك”، مزدحمين مثل الوعول الخائفة من هجمة وحش. ورنا تحيطهم بزيها المتوحش. لها المتن، ولهم الهوامش. هي واحدة، وهم كثر، لكنها أكثر منهم مالا ونفيرا. وفي اليسار صورة فتى حزين كسير كسيف، يطأطئ رأسه خجلاً من يومه، وأمسه، وغده. ربما خجل من أمر آخر، هو كثرة الفتوق في سروال النجمة، الذي لا يستطيع لها رتقا.
رنا الأبيض المتوسط حضرت بثياب الميدان والحرب. في حزامها درع، يتدلى منه ما يشبه الرصاص، لكنه للزينة. تبدي عطفها من ثقوب البنطلون على الأسرة النازحة، فتغمرهم بالنور من فتوقها. تحمل في الصورة طفلة، حملاً جائراً، ليس فيه مودة، ولا رحمة، كأنما تنتبذ منه، فظهرُ الطفلة إلى صدر رنا الأبيض، كأنها تخجل من النظر إليها، أو أنها تقرف منها. الشرير في أفلام المغامرات يخطف الطفل، ليتدرع به بهذه الطريقة. يدها الثانية ممدودة إلى كتف الفتى الكسير الناكس رأسه خجلاً من أمسه المنصرم.
وجه الأنثى متجه إلى الفتى الذكر المنكسر. زي رنا الأبيض غربي، أوربي، ينتسب إلى عهد ما بعد الحداثة، إلى البطر، والطغيان. فهي تنتعل جزمة طويلة الساق، كأنها أعدت نفسها لخوض الطين في وحول المخيمات السورية، فنعّما أعدت نفسها له وتجهزت. بنطالها فيه خمسة ثقوب واسعة كريمة. بنطالها يشبه سوريا، وربما حال سوريا أسوأ. البلد مخروق بخروق الفساد. لولا الثقوب والأنقاب لاحتقنت سوريا مثل كوريا الشمالية، فالقانون رسمه قوم لا يفقهون قولا.
لقد خرقت ثوبها لتغرق أهلها. قميصها قصير معقود من فوق السرة بعقدة، يعقدها عادة رجال العصابات، زهداً بالأناقة، أو ضيقاً بالوقت الحسير، فالأزرار يصعب عقد عُراها في زمن الحرب والدماء، تحت وابل النيران والصواريخ. عقدة القميص القصير لها عمل آخر، وهو بيان جمال الصدر، لها الصدر دون العالمين، ولنا القبر.
خلف حسناء التلفزيون الكاوبوي، أو البلاي بوي، الفاتحة ساقيها علامة التحدي والعنفوان المبين، التي تفضلت على النازحين ببعض ضوء من لحمها الأبيض غير المتوسط، جذع شجرة منتصب. ربما انتصب الجذع رهباً، ربما رغباً. لا أظن أن “الكاوغيرل” اختارت جذع الشجرة عن قصد، لتكمل المشهد الايروتيكي الحزين، الذي يختلط فيه قطبا المشهد السوري: التراجيديا والكوميديا، النعيم والجحيم، الموت والرغبة المحرمة، الحابل والنابل.
استنجدت رنا الأبيض في الصورة التي أنزلتها على صفحتها في الفيسبوك، ثم حذفتها لاحقاً، بالمفتي السوري البسّام، الذي يسمى في سوريا بمفتي البراميل، لنجدة هؤلاء النازحين، وليس بالأسد، ولا بوزير الدفاع، ولا بوزير الاقتصاد، ولا برئيس الوزراء، ولا بشريف شحادة، ولا ببثينة شعبان.
فذكرتني الطعن، وكنت ناسياً. وذكرتني، والشيء بالشيء يذكر، بأمير موسوي، وهو محلل سياسي إيراني، حشره فيصل القاسم ذات مرة في إحدى حلقات برنامجه، وكاد له كيداً، فعرض له فلماً، وثيقة، يظهر فيه المفتي السوري، وهو يعدد ولايات بلاد الشام فذكر إسرائيل حسب الأحرف الأبجدية!
هذه هي الشفافية التي طالما تغنى بها النظام الشفاف مثل دويبة السرمان. وذكرتني أيضاً بتبرير نائب سوري سابق، لمنع الرئيس السوري من مشاركة بوتين في مراسيم استعراض جيشه في حميميم، بقوله: إن الجندي الروسي استوقف الأسد ليطلب منه تمديد الخدمة العسكرية في حضن الوطن السوري، أو بعض أقراص الشنكليش!
وكان يوماً عبوساً قمطريراً، وانتظرنا ردّ الموسوي، فقال: إن المفتي التي استغاثت به رنا الأبيض موظف صغير! ويومها سقط الدبُّ عن الفنن. أظنها لم تكن لتجرؤ على الاستغاثة بالرئيس، الذي يستجار به عادة، فهو الأول في سوريا، بطلها الأوحد، رائد التطوير والتحديث، قاهر الفساد، داحر الدواعش، أمل العباد. الله للعبادة، وهو للقيادة، ثالث ثلاثة: الله سوريا وبشار بس.. فلم َاستغاثت بالمفتي روح القدس؟
لعل ذات الخروق الخمسة -والصورة تعد بالخرق السادس غرورا- تدرك عن جنب وهم لا يشعرون، أن استنجادها بالأسد، وهي في ذلك الزي الذي يبعث الأمل في نفوس الأمارة أنفسهم بالسوء، تعيب صورة الأسد المهيبة، الذي لا يرضى لإحدى حرائر بلده أن تستنجد به، كما فعلت امرأة عمورية: واحسوناه.
لقد ذكرتني الخطوب بمشهد من مشاهد مسرحية شقائق النعمان، وهو الذي تجري فيه الغانية في بلاد السلطان: وهي تصيح وتنادي مستغيثة: مولاي.. النجدة.. النجدة.. فيركض مولاها في أثرها ويقول: لبيك وسعديك، والمجد كله بين يديك. أنجدْها يا حسون، وعليّ إثمها.
المؤكد أن رنا تحبُّ الاستعراض، و”الشو”، وفيها نزعة سادية مثل جميع صور النظام الحربية. رنا الأبيض في الصورة هي “الفور كات” ناقص ثلاثة، فهي تغني عن أربعة قطط. وكان غسان الجباعي قد كتب مقالاً جميلاً عن الفنانين المصريين، الذين يتضامنون مع الشعب السوري زيارةً، فينزلون في فنادق خمس النجوم؛ أمثال محمد صبحي والحجة إلهام شاهين. تذكّر رنا الأبيض ببوسترات الأفلام الأمريكية، التي يكثر فيها القتل والعنف، مثل فيلم من أجل حفنة دولارات، وفلم بانديداس، وفلم فيفا ماريا، المرأة القطة، امرأة جميلة..
قلنا إن الفتى ينكس رأسه خجلاً، لا يستطيع أن ينظر في عين الكاميرا. ليس لديه ما يستر النجمة، التي عُريت في حضن الوطن. الخجل يقلُّ عادة في زمن الحرب، فالدم والخجل لا يجتمعان. صورة الأخت في الزاوية تشبه صورة مريم العذراء، جميلة، بريئة، طاهرة، عفيفة.
لا تشبه صورة رنا الأبيض مريم المجدلية، ولا ناعومي كامبل، ولا الكاتبة أحلام مستغانمي، ولا الممثلة الأمريكية أشلي جود، ولا المغنية الأمريكية جانيت جاكسون، ولا ملكة بلجيكا ماتيلدا، ولا النجمة الأمريكية أنجلينا جولي، التي زارت المخيمات، وكانت ترتدي ثيابا عادية، جولي تبنَّت تسعة أولاد من مختلف الأجناس، وتبرعت بجزء من ثروتها للنازحين.
من غرائب الصورة أن الأمل يظهر وراء الأسرة المحترسة بالشجيرات الخضراء، تنتهي خضرة الأمل عند ظهور بطلة الكاوبوي السورية، وينتعظ جذع الشجرة، والطفلة المحمولة مدلاة في مشهد أقرب إلى الشنق، فالحمل من تحت الصدر، وهو ما يحبس النفس في الصدر.
بعض النجوم يأتون ليقتبسوا نوراً من أنوار النازحين، فقد سمعنا في هذا العصر بعمليات تغسل الأموال، وصور أيتام وفقراء ونازحين تغسل النجوم. بعضهم يأتي ليلتقط صوراً بجانب النازحين الديناصورات. كأن الشعب السوري يتعرض للانقراض