ست نساء، ثلاث سوريات: علا العبد الله (فنانة وباحثة) ودنيا الدهان (قيؔمة) ورندة مداح (فنانة)، وثلاث فرنسيات: بولا آيزنبرغ (مديرة “الميزون روج” في باريس) وبولين دو لابولاي (الرئيسة الفخرية لأصدقاء الميزون روج) وفيرونيك بوروييه أوبريتو (صحافية وقيّمة معارض)، اجتمعن وطوؔرن أفكارهنّ عن الفن والفنانين السوريين في عاصمة الأنوار باريس. وكانت البداية مع المراسم المفتوحة على الفن السوري، في تظاهرة امتدت على مدار العام الماضي وشملت زيارات لأكثر من عشرين فنانًا سوريًا في باريس وضواحيها. الناظر في السير المهنية للنساء الست لن تفوته السمة المشتركة: الجدية والدأب. سمة أصيلة في كل عمل قدير، أسفرت أولًا عن معرض لبعض الفنانين السوريين في غاليري “بروميير روغار” في باريس، قبل أن تتبلور على “أكمل وجه” تقريبًا في تخصيص يوم دراسي في كلية الفنون الجميلة “البو زار” في باريس بداية مارس (آذار) المنصرم. وشاركت فيه سبع عشرة شخصية ثقافية وفنية سورية وفرنسية، منهم الباحثون: حسان عباس وفرانك ميرمييه وسيسيل بويكس ولورانس بيرتران دورلياك وفاروق مردم بيك، والناشطون الثقافيون: دلفين دوكاس، ألمى سالم، ومنى الأتاسي والفنانون: محمد الرومي وعلا العبد الله وسنا يازجي ونور عسلية ورندا المداح وعزة أبو ربعية، فضلًا عن فيلم قصير خاص بفنانين سوريين شباب انتسبوا أخيراً إلى “البو زار”.
الجلسات الأربع غطّت المواضيع الآتية: “الفن في سورية قبل 2011: السوق والرقابة”، “أماكن الفن السوري الجديدة: طرق وشبكات”، “الفن كتعبير سياسي: ناشطون ومبادرات فردية”، “الفن في الشرق الأوسط بين المقاومة والمُرونية”، فأوضحت بصورة شبه وافية رهانات الفن السوري المعاصر والحديث اليوم، وأظهرت تنوّع التجارب والمقاربات بعد العام 2011، الذي فيه اختلفت زاوية النظر اختلافًا جذريًا فصار الفنانون والفاعلون الثقافيون أكثر اقترابًا من التعبير السياسي المحتج والمتمرد، ذلك لأن “الغلبة” الظاهرة لوسائط التعبير المعاصرة مثل التجهيز، والفيديو آرت، وفنون الأداء، تنسجم مع طبيعة الفن المعاصر نفسها الأقرب إلى النقد السياسي والاحتجاج ضد ظواهر اجتماعية بعينها، من دون أن ننسى “ازدهار” التوثيق كمقاربة فنية لافتة في الفن السوري المعاصر اليوم، ومن أبرز فنانيه نجاح البقاعي وعزة أبو ربعية التي كانت مداخلتها مؤثرة إلى حد بعيد نظرًا إلى أنها تنطلق من تجربتها الشخصية في الاعتقال. إلا أن ذلك كله ما كان ليغفل البتة التجارب الأساسية في الفن السوري الحديث، بل إن الإحاطة بالتاريخ القريب للتجربة التشكيلية السورية ووضعها في إطارها كانا حاضرين في غير ما مقاربة، الأمر الذي ظهر جليًا مع المداخلة الخاصة بـ غاليري الأتاسي الرائدة، والتي لا يمكن مقاربة المشهد الفني السوري من دونها.
الهدف الأساس من اليوم الدراسي كان تسليط الضوء على أثر الثورة والحرب والنفي في الفن السوري المعاصر وإنتاجاته البصرية. وجاءت المداخلات على اختلافها ضمن إطار سبر التغيير الطارئ على النتاج السوري الفني، والتعريف بالتجارب الثقافية الجديدة (ألمى سالم، سنا يازجي) لكن من دون تنميط ووصم سياسيين، ومن دون انقطاع عن تاريخ الفن السوري في الآن ذاته. ثمة استمرار ووجهات مغايرة واستجابة أصيلة لأمرين: الحدث الأساس في العام 2011، والانغماس في التقنيات الجديدة وكذلك الاهتمام بالمفهومية كمقاربة معاصرة.
كانت الصورة الكبيرة لمبادرة المراسم المفتوحة واليوم الدراسي، تمهد في شكل أصيل لما هو أوسع: معرض “أين بيت صديقي؟” المقام في بيت الفنون – مركز الفن المعاصر في ضاحية مالاكوف اللصيقة بباريس، (يستمر حتى 9 يونيو- حزيران). وهو معرض جماعي لعشرين فنانة وفنانًا سوريين: نجاح البقاعي، ريم يسوف، إيمان حاصباني، خالد ضوا، محمد عمران، ديالا برصلي، نغم حديفة، عزة أبو ربعية، نور عسلية، وليد المصري، سلافة حجازي، أكرم الحلبي، خالد بركه، “مصاصة متة”، علا عبد الله، رندة مداح، ولاء دكاك، خالد تكريتي، تمام عزام، بيسان الشريف.
اختيار المكان واختيار الأعمال وعنوان المعرض انسجمت كلها ضمن مفهوم البيت أو غيابه بصورة أدق، من دون أن تبدو تفسيرًا مباشرًا له، فالعنوان استدعاء شعري لفيلم عباس كياروستامي: “أين بيت صديقي؟” (1987)، ومكان العرض يشبه قصرًا صغيرًا بثلاثة طوابق، موحيًا أنه بيت، واستفادت القيؔمات الثلاث: بولا آيزنبرغ، ودنيا الدهان وفيرونيك بوروييه أوبريتو، من هندسة المبنى تلك، فرُتّبت الأعمال الفنية لتضاعف الإحساس بذلك، بخاصة في الطابق الأرضي حيث التجهيز الذي أنجزه خالد بركة المكوؔن من غرفة معيشة ومكتب، فيه كل شيء معلؔق بخيوط غير مرئية: قطع الأثاث والكؤوس والكتب والأقلام والحاسوب والسجادة… ليوحي قصدًا باللااستقرار والقلق واستحالة فعل السكن والسكنى، أي حال السوريين اليوم بامتياز. لذا يمكن النظر إلى تلك البانوراما من الأعمال الفنية من ناحية “ضد البيت”، حيث إن الغياب بمعانيه المتعددة والمسارات التي يسلكها والكوابيس التي تحف به هي الجامع الخفي لتلك الأعمال والقابض على إكسيرها المنكسر حقًا، يظهر مثلًا في “البقجة” الموضوع الرئيس للوحة خالد تكريتي تارة، وفي اختفاء المدينة التدريجي بفعل الحرب في فيديو بيسان الشريف ومحمد عمران، في فيديو رندة مداح القادمة من الجولان حيث البيت المقصوف المنهوب للعراء والريح يطل الأخضر اللازوردي، وقطعة من مخلفات الحرب تجلس “مرتاحة” مستقرة على الطاولة. الغياب هو الحلم على شكل مخلوقات كابوسية أيضًا كما في اللوحتين الرائعتين لأكرم الحلبي.
وإن كان الفقد يعد موضوعًا كبيرًا في فنون شتى، إلا أنه في هذا المعرض يسرؔب أحاسيس متشابكة، فالأعمال هنا نجت من الوقوع في فخ المتوقّع من فنانين في المنفى، أي أهل الفقد بامتياز، إذ لا يخفى أن الحال السورية الرهيبة -وإن كانت محركًا أساسًا في هذه الأعمال- تفرض مسارات بعينها على نحو يكون للسياسي حصة أكبر، وهو الأمر الذي لا يمكن إدراج المعرض تحت بنده، بل على العكس، فقد نجحت الأعمال في الإمساك بخيط التوازن الدقيق بين السياسي والفني، فلا هي تخفّفت من الأول ولا هي أهملت الثاني. الأمر الذي يمكن “لمسه” بالنظر إليها وتأمل ما توحي به، فهل نحن ننظر إلى العمل الفني أم إلى المعاناة والعذاب فيه؟ هو السؤال أو الجواب الأساس لكل ناظر. تقول فيرونيك بوروييه أوبريتو (إحدى القيّمات الثلاث) عن الفنانين: “عانى بعضهم من الرعب والاضطهاد والتعذيب. أما الذين غادروا بلدهم في وقت سابق، فقد عاشوا الأحداث من بعد، لكننا لم نرغب في الجمع بينهم تحت شعار ثقيل أو بائس، وإنما أردنا إظهار كيف يعيدون بناء حياتهم بكثير من الطاقة”. الطاقة ليست إلا هذا الفن الطازج والمنغمس في المشهد العالمي من دون أن يكون منقطعًا لا عن جذوره ولا عن “جديته السورية”. فهؤلاء القادمون جميعًا من البلد الصغير المثخن بالجراح، أصحاب تجارب شخصية قاهرة تتنوع من الاعتقال إلى النفي بكل أنواعه إلى اليأس، درس غالبيتهم في كلية الفنون الجميلة بدمشق أو كلية العمارة، من الصحيح أن الدراسة هناك تقليدية، بيد أنهم عاشوا في مدينة غنية لكن مقموعة، ما ترك أثرًا لا يخفى على أعمالهم ذات النوعية الرفيعة طبعًا بيد أنها جدية فعلًا، بعيدة من الاستعراض ومن “التغني” بأفعال المنفى وأسبابه وخلفياته. هادئة وقورة، صارمة وعاطفية خفيةً، مثقلة بالمشاعر وممتلئة بالأحاسيس، توازن بين الفني والسياسي، وتجيد كتابة رسالة قوية. وليس هذا الكلام من قبيل المديح بل الوصف، ذلك لأن هذا المعرض القوي، سليل جهود حقيقية بدءًا من “المراسم المفتوحة” ومن ثم اليوم الدراسي، وفي كل الخطوات تميؔز بغلبة النساء بخاصة الباحثات والقيّمات، أمر لافت حقًا، تلك الجدية التي عملنَ بها، وذاك الدأب. وكل هذا انعكس في أمرين، الاستقبال الفرنسي الإيجابي، جمهورًا ونقادًا، والخبر الجميل بتمديد أيام المعرض، فبدلًا من أن يغلق أبوابه في الرابع عشر من أبريل (نيسان) سيستمر حتى التاسع من يونيو.