بوسع صورة واحدة لشيخات “الراي” المسنّات أن تستوقفك وتدفعك بقوة لمقارنتها بصور من عرفن بـ“النوريات” أو “الحاجيات” في المشرق. أولئك المغنيات اللائي تعكس حالتهن تناقضات العقل في المشرق، وكيف تمّ التعامل مع تراثهن الفني الذي بقي محتقرا وأقلّ قيمة في المشرق، بينما تمكّن أهل المغرب من تحويله إلى فن عالمي، وذلك بدءاً من سبعينات القرن العشرين فقط.
في كتابه الثمين “البرهان” وتحت باب “رسالة العقل” حاول الفارابي، ذات يوم، أن يفهمنا ما هو العقل الذي يسيطر علينا. كتب الموسيقي والفيلسوف الخالد “إنه هو الذي حصل لنا اليقينُ به من غير أن نعلم من أين حصل، ولا كيف حصل، ومن غير أن نكون شعرنا في وقت من الأوقات إن كنّا جاهلين به، بل نجد أنفسَنا كأنها فُطرت عليه من أوّل كوننا”.
أما خارطة العقل العربية، التي تجمعها لغة أساسية واحدة وتاريخ ودين وعوامل عديدة مشتركة، فقد تمايزت وتسبب بها مسار تطور تعرّضت له تلك المجتمعات خلال مئات السنين. صحيح أن العرب بقوا على قبائلهم التي عرفوا بالانتماء إليها في الماضي البعيد، ونادرا ما تجد بيتا عربيا لا يحتفظ بشجرة نسب تُعيد أصحابه إلى اليمن أو الحجاز أو نجد. لكن هذا ليس كل شيء.
لا شك أن الفارابي كان بارعاً في اكتشاف الإنسان، لكنه بدا أكثر براعة في الفيزياء حين أدخل إليها مفهوم “الفراغ” الذي يعود إليه الفضل في اكتشافه
لنتخيّل كيف تطوّر العرب اليمانية كما يسميهم التاريخ، على سبيل المثال، بعد انتقالهم إلى الأندلس، وكيف تطوّر أبناء جلدتهم من اليمانية الذين بقوا في المشرق. ناهيك عن بقية القبائل والأعراق التي تشارك العرب الحياة على امتداد هذه البقعة الواسعة من العالم.
إنّ الهجرة والنزوح والترحّل كانت موجات تنبثق كل مرة، ليندفع من خلالها البشر من مكان إلى آخر، ناقلين معهم جزءاً من ثقافتهم ووعيهم الذي لا يشعرون به، مفسحين المجال بالضرورة، أمام التأثر بالمكان الجديد. أما من بقي فقد تأثر بشكل مختلف.
انظر إلى المزاج “الحامي” الذي يصبغ العقل العربي في المشرق، وقارنه بطريقة التفكير في المغرب. لا يتوقف الأمر على الفنون، بل يتعدّاه إلى النظرة إلى المرأة والآخر والتنمية والعلوم والعمارة، وإلى المستقبل أيضاً؛ ذلك “الكائن العلمي” الذي لا يمكن إيقاف وصوله بأي شكل كان. ولا شك أن الفارابي كان بارعاً في اكتشاف الإنسان، لكنه بدا أكثر براعة في الفيزياء حين أدخل إليها مفهوم “الفراغ” الذي يعود إليه الفضل في اكتشافه. ويا لها من صلة مثيرة ما بين الفراغ والعقل في خرائط العرب.
صحيفة العرب اللندنية