“بعد كل زيارة يقوم بها بوريسوف إلى دمشق نكون بانتظار تخلي النظام عن جزء من الوطن لصالح روسيا”. هكذا علق أحد السوريين على وصول نائب رئيس الوزراء الروسي يوري بوريسوف إلى دمشق مساء الأحد، مستقباً الوفد السياسي والعسكري والاقتصادي الروسي الذي حط في مطار العاصمة السورية صباح الاثنين، بقيادة وزير الخارجية سيرغي لافروف.
ورغم الأبعاد السياسية الواضحة لزيارة هذا الوفد الكبير، إلا أن الجانب الاقتصادي يحضر بقوة، سواء من حيث تركيبة الوفد، حيث يتواجد فيه مسؤولون اقتصاديون كبار، على رأسهم بوريسوف بطبيعة الحال، الذي يعتبر مساعد رئيس الحكومة الروسية لشؤون الاقتصاد، أو من حيث الملفات المجدولة على برنامج عمل الوفد، والتي تم الكشف عنها من خلال تصريحات الجانبين الروسي والسوري.
وبحسب وكالة أنباء النظام الرسمية “سانا”، فإن الوفد الروسي سيجري مباحثات اقتصادية مع المسؤولين في دمشق “بهدف استكمال مباحثات اللجنة السورية-الروسية المشتركة للتعاون التجاري والاقتصادي بين البلدين”.
الحضور القوي للملف الاقتصادي في هذه الزيارة عادت وأكدت عليه صحيفة “الوطن” التي تصدر في دمشق، التي قالت “إن الزيارة تأخذ طابعاً اقتصادياً وسياسياً، إذ ترفض موسكو العقوبات المفروضة على سوريا، وتعمل على إلغائها أو التخفيف منها، من خلال مساعدات واتفاقيات توقعها مع الجانب السوري”.
وكانت اللجنة الروسية-السورية المشتركة قد عقدت اجتماعها السابق، وهو الثاني عشر لها، في موسكو نهاية العام الماضي، برئاسة كل من وليد المعلم وبوريسوف ذاته. ورغم أنها رفعت الشعارات نفسها ، “التخفيف من العقوبات الاقتصادية وتقديم المساعدات للشعب السوري” إلا أن أياً من ذلك لم يحصل، فاستمر تدهور الأوضاع الاقتصادية في سوريا، وواصلت الليرة انخفاضها، ما أدى لارتفاع مستويات التضخم ومعدلات الفقر والبطالة وغير ذلك من مظاهر الانهيار المتواصل في الاقتصاد السوري.
وقبل الاجتماع الأخير لهذه اللجنة في كانون الأول/ديسمبر 2019، كان يوري بوريسوف قد زار دمشق والتقى برئيس النظام بشار الأسد، حيث ناقش الاثنان “بعض المواضيع المهمة، وعلى رأسها الملفات المتعلقة بتحقيق المشاريع الكبرى التي ستستخدم في إعادة بناء الاقتصاد السوري، بما فيها مشاريع إعادة البنى التحتية للمطارات السورية والسكك الحديدية والطرق العامة” حسب تصريح أدلى به بوريسوف عقب ذلك اللقاء.
وبالطبع لم يشاهد السوريون أياً من هذه المشاريع التي أعلن عنها المسؤول الروسي، لكن الشيء الوحيد الذي تمت ترجمته عملياً من كل نقاشات اللجنة المشتركة هو تنازل النظام لاحقاً عن مساحات إضافية للروس، من أجل توسيع قاعدة حميميم في ريف اللاذقية.
ورغم أن الكشف عن هذا التنازل جرى في شهر آب/اغسطس الماضي، إلا أن كل المعطيات تؤكد أن الإعلان عنه جاء تتويجاً لخطوات عديدة سبقت وضعه حيز التنفيذ.
ففي 21 تموز/يوليو، تم التوقيع رسمياً بين الجانبين على اتفاق تنازل حكومة النظام عن ثمانية هكتارات من الأراضي ومساحات غير محددة من المياه في البحر المتوسط لصالح روسيا “من أجل توسيع قاعدة حميميم العسكرية”.
لكن هذا الاتفاق لم يكن سوى الإجراء العملي للمرسوم الصادر عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، نهاية أيار/مايو الماضي، وفيه فوّض وزارتي الدفاع والخارجية بإجراء مفاوضات مع الحكومة السورية، بغية تسليم العسكريين الروس منشآت ومناطق بحرية إضافية في سوريا.
وحسب المعطيات، فإن هذا المرسوم لم يأتِ إلا بعد إنجاز موسكو دراسة معمقة للموقع الجغرافي والمساحة المطلوبة لتنفيذ هذه “التوسعة” المعلنة للقاعدة العسكرية، بعد أن كان الاتفاق على منح الروس ما يريدونه على هذا الصعيد قد جرى خلال الاجتماع الثاني عشر للجنة الروسية-السورية المشتركة، في الشهر الأخير من العام الماضي.
هذه هي النتيجة الوحيدة إذاً التي خرج بها السوريون من اجتماعات تلك اللجنة، التي يفترض أنها شكلت لتحقيق انجازات اقتصادية وتنموية تنعكس ايجاباً على واقع المواطن السوري في مناطق سيطرة النظام. ولذا فإن الكثيرين من حاضنة النظام الشعبية، بمن فيهم العلويون في الساحل السوري، لا يبدون أي اهتمام بزيارة الوفد الروسي، بينما يتخوف من يهتم منهم بهذه الزيارة من أن تكون مقدمة لتنازل جديد يقدمه النظام لحليفته روسيا.
وما يجعل هذه الخشية أكثر واقعية، هو اندلاع الحرائق في غابات سوريا الساحلية، منذ خمسة أيام، وهي مناطق يسكنها العلويون، وسط اتهامات للنظام وروسيا بعدم التحرك الجدي لاحتواء الكارثة، ما جعل الكثيرين يتكهنون بأن الحريق مُفتعل، وأنه يأتي لخدمة مصالح موسكو في هذه المنطقة، وأن النتيجة القادمة لاجتماعات اللجنة الاقتصادية المشتركة هو تنازل حكومة النظام عن المساحات التي التهمها الحريق الأخير لصالح روسيا.
والواقع أن هذه النظرية لا تبدو واردة فحسب، بل وعليها من القرائن ما يجعلها ممكنة جداً، وأهم هذه القرائن بالطبع أن الحرائق طالت غابات في مناطق محيطة وقريبة من قاعدة “حميميم” العسكرية الروسية في ريف اللاذقية الشمالي، وهي منطقة اصطياف وسياحة محلية سورية بامتياز، تتسم بطبيعتها الخلابة ومناخها المعتدل، وكانت وجهة رئيسية للسوريين من مختلف أنحاء البلاد خلال فترات الصيف، ما قبل أعوام الحرب، بالإضافة إلى السياح العرب والخليجيين تحديداً.
وما لا يمكن تجاوزه هنا هو الاهتمام الروسي الشديد بالاستثمار في قطاع السياحة والاصطياف، الذي لطالما عبر عنه المسؤولون ورجال الأعمال الروس منذ تدخّل بلادهم العسكري في سوريا عام 2015، حيث اعتُبر الاستحواذ على هذا القطاع إحدى المكافآت المهمة التي تنتظر شركات الاستثمار الروسية مع انتهاء الحرب (المفترض) في سوريا بفضل هذا التدخل.
وعليه، لا يستبعد السوريون بمختلف توجهاتهم السياسية، وبمن فيهم مؤيدو النظام، أن يكون الحريق الذي اندلع في الغابات الساحلية وفي منطقة مصياف (حماة) وجبال حمص تمهيداً لدخول شركات السياحة الروسية إلى هذه المناطق، خاصة وأن القوات الروسية المتمركزة هناك لم تتحرك لمساعدة الدفاع المدني السوري في السيطرة على الحريق، بينما كانت موسكو قد عرضت خدماتها على اسرائيل خلال حرائق الغابات التي وقعت في الأراضي المحتلة عام 2016، وأن كل ما حدث هو النتيجة المسبقة للاجتماع المنتظر لهذه اللجنة.