لا يمكن وصف ما يجري في سورية اليوم، من تطاول روسي على سلطة الأسد ونظامه وداعمه الإيراني، جيشاً أو أجهزة أمنية، إلا بأنه انقلاب عسكري، ولكن ليس بأدوات سورية أو بهدف انتزاع السلطة لمصلحة المنقلبين، كما حال الانقلابات في البلدان العربية، إنما هو انقلابٌ لتغيير وجه النظام إعلامياً، وتغيير موازين القوى أمنياً، وإنهاء ملفات المنطقة سياسياً، بما يضمن مصالح إسرائيل وأمن حدودها، ورغبتها في استقرار التطبيع “فوق الطاولة” معها عربياً، وفق ما يمكن تسميتها صفقة القرن التي أنتجت مفاهيم جديدة في الصراع العربي الإسرائيلي، وصنعت أجندةً جديدةً لأولويات شعوب المنطقة، ليس من بينها تحرير ما اغتصب من أراضيها، بل ترويضها وتدجينها تحت طائلة معاقبتها بأنظمتها الاستبدادية إلى الأبد.
ولكن، وفي حقيقة ما جرى، لم تكن سورية في منأى عن حدوث انقلاب عسكري وشيك من داخل النظام، وعبر رموزه الحاكمة في مواقع حزبية وأمنية وعسكرية، وحتى مدنية، على طريقة ما يحدث اليوم في البلدان العربية، ينهي حكم الأسد نظاماً وعائلة. إلا أن التعقيدات والتفاصيل التي تربط أجهزة الدولة الأمنية بالأجهزة العسكرية وقياداتها، وقدرة إيران على التوغل داخل منظومة الحكم في سورية منذ الأيام الأولى التي عمّت فيها التظاهرات في درعا، ثم امتدت إلى باقي المدن السورية، بدءاً من عاصمتها وريفها القريب، امتداداً حتى مدنها في الوسط وعلى مقربة من الحدود على كل انفتاحاتها، أحبطت تلك المحاولات قبل أن تتبلور تارة، أو خلال مراحل تنفيذها، كحال ما جرى لخلية الأزمة التي اجتثت بكامل أعضائها الفاعلين والمؤثرين أمنياً وعسكرياً وانتماءً دينياً.
“التطاول الروسي على سلطة الأسد ونظامه، وداعمه الإيراني، جيشاً أو أجهزة أمنية، ليس سوى انقلاب عسكري” القيادة القُطرية وبين مكاتب المسؤولين في أجهزة الأمن ووزارة الدفاع، وقد أتاحت لهم اللقاءات التي كانت تجري تحت غطاء تشكيل حكومة حجاب، وفي التوقيت الزمني نفسه، أن يختبروا إمكانية جمع عدد غير قليل من مفاصل القيادات والوزارات ضمن ما يمكن تسميتها حكومة انقلابية، تدعمها جهات عربية ودولية، لتقويض حكم الأسد من داخل النظام والأسرة الحاكمة، بعد استنفاذ تلك الدول فرص الوساطة لتغيير مسار الصدام بين نظام الأسد والشعب، الذي اجتمعت إرادته على التغيير الكامل لنظامه. وهنا يمكن الربط بين انكشاف تحركات الانقلابيين وتوقيت عملية إطاحتهم (18 يوليو/ تموز 2012)، التي جاءت بعد تشكيل حكومة حجاب بأقل من شهر، وتسارع حركة هرب بعض القيادات في الجيش والأمن من سورية بعد عملية الاغتيال المدبرة.
والحديث هنا عن انقلاب ثلةٍ من الأسماء المعروفة في النظام السوري، لتغيير مسار الثورة وإزاحة بشار الأسد، لا يعني بالضرورة أنه انقلابٌ لتحقيق إرادة الشعب السوري، وحقه في تقرير مصيره، وإنما يمكن وصف ما كان يخطط له بأنه “انقلاب” في إطار احتواء الأزمة أو تبريدها، ضمن ما كان يصفه أحد المشاركين في المخطط بأنه إبعاد للخطر الذي يحدق بالأسد شخصاً وبسورية بلداً، وفي الوقت نفسه، يمكن تفسيره بأنه عملية تصفية حسابات عائلية، تأخر فيها الانتقام المبيّت، الذي أسهم بتبني صهر الرئيس عملية الانقلاب المرتقب، إذ انتشرت الحكايات عن خلافاتٍ مصلحيةٍ بين قائد العملية الانقلابية، آصف شوكت، ونسيبه الأسد، ما جعله أساساً ضمن قائمة الأعداء المتوقعين، وأسهمت الرقابة المشددة في كشف العملية “المبيتة”، فسارع النظام ومساندوه إلى تفجير قاعة الاجتماع مع كل مريديه في عملية استخباراتية أودت بحياة كل المطّلعين والمخططين للانقلاب من أعلى القيادات في الحزب والأمن والجيش. ما يعني أن رئيس النظام السوري استطاع مبكراً أن يطيح الانقلابيين من جيشه، وأن يستثمر في قتلهم، وأن يحوّلهم من فاعلين متهمين بعملية الانقلاب إلى ضحايا للإرهاب الذي يطيح البلاد، مستفيداً من صلة القرابة التي تجمعه مع اللواء آصف شوكت، زوج أخته بشرى الأسد، أحد أهم أهداف التفجير الذي طاول مبنى الأمن القومي السوري على وجهين مختلفين:
أولهما تأكيد أن ما يعصف بالبلاد هو حربٌ بين الدولة، التي يمثلها نظامه ورموزه (ومنهم
“انكشاف تحركات الانقلابيين (18 يوليو 2012)، مرتبط بتسارع حركة هرب بعض القيادات في الجيش والأمن من سورية بعد عملية الاغتيال المدبرة” الخلية الأمنية التي تم اغتيالها لتجنب سيناريو انقلابها الذي كان قاب قوسين أو أقل) ومجموعات إرهابية نافذة، استطاعت التغلغل داخل المجتمع السوري، وصولاً إلى أن يصبح لها أدوات تنفيذية داخل أكثر الأماكن تحصيناً، وهو مبنى أعلى جهة أمنية، حيث بمقتل أحد أفراد عائلته ضمن المجموعة التي تم تصفيتها، ومنهم: رئيس مكتب الأمن القومي هشام بختيار، ورئيس خلية إدارة الأزمة اللواء علي تركماني عضو القيادة القطرية لحزب البعث الحاكم، ووزير الدفاع داود راجحة ونائبه اللواء آصف شوكت، ما ينفي توجيه التهمة لنظامه أو لداعمه الإيراني.
وثانيهما أنه وجّه رسالة حاسمة إلى قادة الجيش والسلطة، أن المهمة الموكلة لهم لم تعد حماية الحدود المحاذية لدولة الاحتلال الإسرائيلي التي تحتل، إضافة إلى الأراضي الفلسطينية، الجولان السوري منذ عام 1967، أو تلك الحدود مع تركيا التي تقتطع لواء إسكندرون شمالاً، أو مع العراق العاصف بالأحداث والتفجيرات الإرهابية شرقاً، بل إن المهمة الأساسية هي حماية كيان النظام القائم من الشعب السوري، الذي ينادي بإسقاطه في تظاهرات عمّت معظم المدن السورية آنذاك (منتصف 2012)، ما يوحي بأنها غير قابلة للانحسار، على الرغم من محاولات قمعها التي وصلت إلى قتل الجيش والأجهزة الأمنية ما يناهز مائة من المتظاهرين يومياً، واعتقال العشرات، وصولاً إلى ما يزيد عن مائة ألف معتقل سياسي، وحصار المدن ومنع وصول أغذية الأطفال إليها، أي إنه وضع أجهزة الجيش والأمن أمام خيار الاعتقال أو الموت، أياً كانت مكانتهم العسكرية أو حتى العائلية، بعد أن أصبح مقتل اللواء شوكت فزاعة النظام بوجه قادته العسكريين والأمنيين، ما حدا برموز قمعية أن تغادر سورية بصمت أو علانية، تحت مسمى انشقاقات ضباط سجلت مئات الضحايا في سجونهم وفي ساحات المدن التي قمعوا تظاهراتها.
ربما تجاوزت سورية مرحلة الانقلاب “المحلي” بسبب طبيعة تكوين الجيش، وربط مفاصله ومصالحهم برئيس النظام مباشرة، إلا أن الانقلاب الدولي في طبيعة العلاقات المصلحية المتحرّكة بين الدول الفاعلة في الصراع السوري، التي اتخذت من سورية ساحة لمعاركها هو أقسى بكثير في نتائجه على النظام، والشعب بشقّيه المعارض والمؤيد، وسورية الدولة اللينة حتى “الانعصار”.