في بداية الثورة، حين كان المتظاهرون يواجهون رصاص الشبيحة، استضافت واحدة من القنوات التلفزيونية التابعة للأسد ممثلاً في برنامج مخصص للتهجم على المنتفضين. الفنان، الذي كان يعاني بحّة في صوته والذي سيموت باكراً بمرض عضال، سيقول ما هو ما متوقع منه عن انعدام مبررات الثورة في سوريا، وإذ يعزّ عليه إنكار أحقية المعارضة بالمطلق ينبري بحماس للقول: تريدون معارضة؟ لم لا؟ أصلاً سيادة الرئيس بشار الأسد هو المعارض الأول.
قول الممثل أعلاه ليس نكتة، ففي مستهل عهده وبعد تحدثه عن الرأي والرأي الآخر عاد بشار الأسد ليسخر من المعارضين قائلاً أنهم ظنوا أنفسهم يمثّلون الرأي الآخر، وكأنه يقصد تحديداً أن الرأي والرأي الآخر حكر عليه! أما قصة “الأول” فهي مستوحاة من عهد الأب، إذ كانت تطلق على حافظ الأسد ألقاب من نوع “المعلم الأول” و”الفلاح الأول” و”العامل الأول”، إلا أن أحداً من بطانته في ذلك العهد لم يكن ليجرؤ على وصفه بـ”المعارض” الأول، حيث كانت فكرة المعارضة مرفوضة ومستبعدة تماماً.
مناسبة هذا الحديث ما بدأنا نقرأه مؤخراً من نقد خفيف لبعض مستويات السلطة الأسدية من مثقفين أو كتّاب وقفوا علناً أو ضمناً في صف بشار ضد الثورة، والبعض منهم كان يشاطر سوريين آخرين “بمن فيهم بعض زملائه الكتّاب” التذمر من القبضة الأمنية قبل الثورة، إلا أنه طوى انتقاداته السابقة بذريعة أن ما يحدث ليس ثورة، وأن الحراك طائفي يقوده إسلاميون هم رأس حربة لمؤامرة خارجية. هؤلاء لم يكفّوا حقاً عن نزوعهم النقدي، إلا أن موضوع النقد “بل الهجاء القاسي” أصبح في المقلب الآخر، وامتلكوا من الإخلاص لموقعهم الجديد ما يفوق عتبهم السابق على سلطة الأسد، ولم يتوانَ بعضهم عن النيل من أصدقائه السابقين الذين أصبحوا في الضفة الأخرى. على نحو أدق، صار النيل من الكتّاب أو المثقفين الذين وقفوا مع الثورة ملحاً كي يثبت هؤلاء صواب موقفهم الجديد، أي لاعتبارات ذاتية لا بالضرورة لإثبات إخلاص أشد للسلطة التي يدافعون عنها.
ما كان يحرص عليه البعض هو القول أنه ليس في موقف الدفاع عن الأسد، وليس له تاريخ من هذا القبيل، أما شراسته في النيل من أحقية الثورة وأهلها فهذه قناعة راسخة بقدر ما يراها صائبة. لا يغيّر من ذلك الصواب ما عمد إليه الأسد إبادة وتدميراً، إذ يُفترض أن يعي السوريون أنهم في مواجهة نظام لا يتورع عن فعل أي شيء، وعليهم التصرف بواقعية تأخذ في الحسبان تلك الوحشية المنتظرة، وإذا ما واجهوا تلك الوحشية فهم يستحقون “هكذا بلا رحمة” نتائج فعلتهم.
لقد وقف هؤلاء مع الأسد في محنته، وعادوا إلى نقدهم القديم بعد تجاوزها، وكأن شرط النقد هو بقاء الأسدية وعدم تعرضها للخطر. واحد من شروط النقد أيضاً عودة غالبية الناس إلى ما دون حاجز الخوف، لأن جرأة المنتقدين لا تأخذ مكانتها سوى في مناخ من تعميم الخوف، وحيث يمكن مرة أخرى نقد الجموع “علناً أو ضمناً” بسبب خوفها. وكما نرى فإن جموع الناس ينبغي أن تكون محل تقريع، فإذا ثاروا ينالونه لعدم ثورتهم على المثال الذي يريده نقّادهم “من دون أن يقدّموا هم أنفسهم مثلاً عليه”، وإذا خنعوا يستحقونه لطبيعةٍ فيهم. العذر المخفف للمثقف في هذه الحالة هي نرجسيته التي تزيّن له أن يكون نخبوياً ومتعالياً، لكن مجريات السنوات الأخيرة أثبتت تماهي نرجسيته مع أسوأ أشكال الوحشية التي تمارسها السلطة.
هذه الشريحة ترى نفسها في موقع “المعارض الأول”، تماماً على النحو الذي أشار إليه ذلك الفنان من احتكار السلطة والمعارضة معاً. إن ما يبدو نكتة للوهلة الأولى يصبح منطقياً جداً عندما يتوّج الجلاد مهمته بالاستحواذ على موقع الضحية أيضاً، وهذا بدوره في صلب عملية الإبادة لأن الإبادة القصوى تتطلب حرمان الضحايا من اعتبارهم كضحايا. ضمن هذا المعيار، لا قيمة ولا وجود لمئات الآلاف الذين قتلهم الأسد من أولئك الخارجين عن سيطرته، القيمة هي فقط لمن دافعوا عن الأسدية وخاب أملهم قليلاً هنا أو هناك. إنهم مثلاً عاتبون على الشبيحة لا لأنهم شبيحة، وإنما لأن أذاهم تعدى نطاق المناطق المستباحة، وعاتبون على رجال المخابرات لأنهم لا يتمتعون برحابة صدر كافية تجاه تذمر متواضع ممّن ثبت ولاؤه.
ما يدهش حقاً في النقد المتجدد الذي يقدّمه هؤلاء أنه صورة طبق الأصل عما كان معتاداً قبل الثورة، وهو ضمن الهامش الذي كانت تسمح به مخابرات الأسد طوال عقود. أحداث السنوات الأخيرة لم تؤثر في أدواتهم، بصرف النظر عن موقعهم وموقفهم مما حدث، وربما هذا الإصرار على الأدوات القديمة يكون دافعه الإحساس بأن زمن ما قبل عام 2011 قد عاد، ولا بأس باستئنافه كما اعتادوا عليه. في احتمال أقل رحمة بهم، لا يُستبعد أن يكون هذا سقف المثقف الأسدي “المعلن أو المستتر”، وكلما تقادمت الأسدية وزاد ابتذالها بان تقادمه وابتذاله معها، وكلما أظهرت عجزاً عن الاكتساب والتعلم سايرها على المنوال ذاته.
الاختلاف الأساسي بين أولئك المثقفين والشبيحة الذين مارسوا القتل هو في أن الفئة الثانية أدت عملها بلا تمويه، ولم تكن بحاجة إلى غطاء ثقافوي أو أيديولوجي، وهي للحق فئة أكثر نزاهة إذ لا تخفي إخلاصها الأول والأخير لمصالحها. والاختلاف بينهم وبين ذلك الموالي الساذج أن سويتهم الثقافية تتيح لهم ألا يكونوا تحت تأثير ضخ إعلامي، بل هم ممّن يُعتمد عليهم مباشرة أو مواربة لاكتساب شيء من المصداقية أمام السُذّج، أو أمام الذين يبحثون عن غطاء فكري يسترون به تأييدهم الإبادة. من جهة أخرى، هم يتمايزون في ما بينهم، حيث نجد من يرتبط بعلاقة مصلحة مباشرة بالأسدية على غرار الشبيحة، ونجد بينهم من لا تربطه بها مصلحة مباشرة على غرار ما نجده لدى موالين بسطاء.
من المؤكد أن الإحساس بالانتصار هو ما يدفع مثقفي الأسدية إلى استئناف نغمتهم النقدية المزعومة، غير أنه لم يعد هناك من جمهور واسع لهم، وقسم كبير من الموالين أنفسهم لم يعد ينطلي عليه هذا النوع من العتب الرقيق. ومن المؤكد أكثر أنهم اليوم يبدون باهتين جداً بكافة المعايير، بقدر ما كانوا أصلاء ومجدّين في دفاعهم عن الأسد.
عن جريدة المدن الإلكترونية ، للاطلاع على الموضوع الأصلي ، اضغط هنا