أراد الفتيان الخروج من المنزل للمشاركة بالمظاهرة الثانية بمصياف عام ٢٠١١ ، و كنت أحاول منعهم بعزم شديد و بكامل قوتي ، لا أعرف كيف صار ابني الكبير بيني وبين الباب، وقفت في وجهه لأجذبه إلى الداخل، فاستدار نحوي، وهو يحاول فتح الباب، و قال لي :
– بابا انت ليش ما عم تفهم ؟ الحرية صارت على الباب!.
أذهلني كلامه و سمّرني في مكاني بلا حراك.
رأيت فيه حماسة الشباب و أمل الغد البسّام، فغيرت موقفي و لهجتي، و قلت له برضى تام :
– روح يا ابني الله يحميكم و يحرسكم ، دير بالك على ابن خالتك فهو أمانة برقبتنا، و اعتن بأخيك الصغير.
– شكراً بابا ، لا تخف علينا..
فتح الباب و خرجوا مهرولين، خرجت روحي برفقتهم و حلقت حولهم لتحرسهم، و غالبت خوفي و أخفيت قلقي عن زوجتي التي بادرتني باللوم و التقريع ، قائلة لي بغضب شديد :
– ةكيف تسمح لهم بالخروج من المنزل و أنت تعلم مخاطر الاشتراك بالمظاهرات؟ ثم إن اختي ما أرسلت ابنها من حلب ليشارك في مظاهرات مصياف ، ماذا أقول لها إذا وقع ما نخشاه لا سمح الله؟
ضحكت، و قلت لها :
– فوضي أمرك لله و توكلي عليه مثلي ، أولادنا و ابن خالتهم بسعر أولاد الناس، و اللي كاتبه الله بدو يصير.
– ما عرفت بقصة قريبنا اللي شحطوه الأمن من الكروم، لأنه شارك بالمظاهرات في مدينة حماة ؟
– علمت، و أعرف بطش الأمن و جبروته.. لك يا بنت الناس ما شفتي بريق الأمل في عينيه عندما قال لي : الحرية صارت على الباب ؟ لقد رأيت شبابي و أحلامي و عنفوان المراهقة فيهم، دعيهم يذهبوا فربما تتحقق على أيديهم آمال جيلي في الحرية و التغيير…
دارت الأيام و صار إبني لاجئاً مع أخيه في ألمانيا بعد عدة محاولات فاشلة للوصول إليها انطلاقاً من مصر – محطتنا الأولى في مسلسل اللجوء – ثم من تركيا و اليونان لاحقاً، و افترقت طرقاتنا بعدها : الأبناء في بلد و الوالدين في بلد آخر.
في أواخر عام ٢٠١٨ قمنا ( أنا و زوجتي) بزيارتهم، و كم فرحت بنجاحهم في حياتهم الجديدة، لكنني حزنت لأنني لم أرَ تلك الجذوة المتقدة حماسٱ وفرحاً وعنفواناً في عيونهم و ملامحهم .. انطفأ البريق في عيون ولديّ، و حلّ محله غلالة من الأسى والحزن، حاولنا أنا وأمهما استثارة حماسهم ببعض الذكريات عن الثورة دون جدوى، وشعرت كأنني أتحدث عن ماض بعيد لا يعرفه أولادي، وربما لهذا عمدنا انا و أمهما لاستفزازهما، وقلت متسائلاً:
- كأنك يا ابني لم تخرج للتظاهر يوماً ما ، مرددأ مع الجموع الغاضبة بصوت عالٍ : ( سوريا بدها حرية) ؟
- بلى، فعلت. لكن هذه الوجوه و اللحى و الشعارات و الرايات و الأسلحة و الدماء لا أعرفها وما خرجت من أجلها.! هذه ليست ثورتي يا أبي.
- طيب، و ماذا عن الحرية التي كانت وراء الباب؟
- صارت وراء القضبان، في سجن كبير مداه وسع الأرض.. كل الأوطان قتلت حلمي و صادرت حريتي و خنقت صوتي!.
- لا بأس يا بني، غداً ستخرج الجموع إلى الشوارع من جديد، و يهدر صوتكم عالياً :
سوريا بدها حرية