منار جابر:موسوعة الآلام السورية لـ: أحمد عمر
تقول العبارة المكتوبة على أعلى باب جحيم دانتي: أيها الداخل افقد كل أمل.
منار جابر، أم لأربعة أطفال. الأم نتغنى بها عادةً في الشعر، وجَعلت الحكومة الموقرة لها عيداً في آذار إنكاراً وتنكيراً ليوم النيروز، وجُعلت الجنة تحت أقدامها، اعتقلت في 2013 وأخلي سبيلها في 2017. اتهمت بتمويل الإرهاب وحمل السلاح، وإسقاط النظام. كانت تأمل بإطلاق سراحها سريعاً في الساعات الأولى، وكل همها أن تعاد إلى بيتها، فهي لا تعرف سوى شارعين في بلدتها، لطيبتها وبراءتها، فلا جرم لها سوى أنها زوجة ضابط منشق، هي لا تفقه شيئاً في السياسة، همومها لا تجاوز شؤون بيتها، أو لأن الزبانية الذين اعتقلوها خطفاً من كراج مضايا، أوهموها بقرب الخروج، الأمر لا يتعدى زمن شرب فنجان قهوة، أو تشابه أسماء، وستعود.
شاهدتُ شهادات كثيرة لمعتقلين عائدين من وراء البرزخ السوري، إلا أن شهادة منار جابر، التي بُثت في برنامج “يا حرية” على تلفزيون سوريا، فريدة، ومختلفة في أمرين: قسوتها التي لا تحتملها العصبة أولي القوة، ورقّتها ومرحها وشعريتها، وبلاغتها التي لم أجدها حتى في شهادات شعراء خرجوا من السجون السورية.
قضتْ منار أربع سنوات في المعتقلات، منها 86 يوماً مع الجثث المتفسخة في الظلام الصلب، لا تسمع سوى حفيف زحف الدود على اللحم الميت، أو قهقهات الجراذين وقضمها لحوم الشهداء المشوية، لا تأكل سوى حبة بطاطا بقشرتها، تُرمى لها كل ثلاثة أيام فتبحث عنها باللمس. تقول بعد خروجها أنّ دموعها تحجرت، وأنها رفضت بعد الحصول على الحرية أن تسمع شيئاً عن الأطفال، لما رأته من أهوال.
نقلت بعد اعتقالها بطائرة من مطار المزة إلى طرطوس، الذي يعد أسوأ معتقل للثائرين بعد الثورة، النقل من مكان الإقامة إلى مكان أبعد، وسيلة لتعقيد التبادل، أو منع الرشوة، أو إعاقة العثور على المعتقل أو المخطوف.
بعد 35 يوماً من التحقيق والتعذيب قذفاً بها من أعلى الدرج إلى أسفله، والشبح وهو؛ التعليق من الرسغين، ثم التعليق من الشعر عقوبة زائدة بعد أن وجد المحققون أنها تخفف عناء التعليق بالاتكاء على الجدار. تعذيب لم نره أو نسمع به في أفلام الرعب المتخيلة، ولم ينله المسيح في فلم ميل غيبسون، والمسيح كان نبياً، ورسولاً، ويوحى إليه، ويتكلم معه الروح القدس، فما كانت مريم العذراء لتحتمل هذا التعذيب. أقرّت مريم العذراء الثانية، بكل التهم المكالة إليها، مثل قتل القاضي بشار نور الدين، الذي لا يزال على رأس عمله! نقلت بعد الاعتراف إلى جناح فيه 22 طفلاً، وهم أطفال، من أتراب وزملاء باسم ورباب، كانوا ذاهبين إلى المدرسة في باص، فخطفوا، أعمارهم بين السابعة والثامنة من العمر.
تقول: إن العميد السجان، بشرّها بالخروج، واستدرجها للشكوى قبل إطلاق سراحها، فاستُدرجت، ووثقت به، وشكت له أمر اغتصاب سجانين للأطفال وتصويرهم، فإن كانوا قد اغتصبوا، فلمَ تصويرهم وإذلالهم بها، قد يزلُّ مأمور، أما الآمر فهو الوصي على الحق والعدل والقانون، لكن الآمر غضب منها وعاقبها برميها مع الجثث، لقد نسيت أن المواطن الصالح: قردٌ لا يرى، لا يسمع، لا يتكلم.
روت في شهادتها أنّ جثةً رميت في البئر التي حبست فيه، كان لايزال بها رمق، اسم صاحبها محمد سرور، في الثالثة والخمسين، لم تر وجهه قط، كانا يتحدثان في الظلام، طلب ماءً، خُطف رهينة من أجل أخيه المنشق، من يبرود، لم يكن سرور يتذكر سوى رقّة أمه التي تلعب بشعره، ويحلم بها وهو يحتضر، لقد عاد طفلاً، فطلبت منه عنوانه لإخبار أهله بخبره إن كتبَ الله لها النجاة، فرفض، متأملاً أن تبقى جذوة الأمل متقدة في نفوس أهله بعودته، الأمل واليأس فكّان، استشهد بعد ساعتين من الأنين لكسور في جمجمته وظهره، مات من غير أن ترى وجهه، أو أن تسعفه بشربة ماء يبل بها ظمأه، فالكأس التي لديها بلاستكية مكسورة، وكان صعباً تحديد موقع ما بقي من جسده، في مفازة الظلام في الغرفة.
استطاعت منار النجاة من الجحيم بالسباحة في الدماء والألم بالأحلام، وأكثر ما حرصت عليه في زنزانة الجثث هو المكوث قرب الباب وطناً جديداً لها، وجبة حبة البطاطا كل ثلاثة أيام ترمى لها من علٍ.
لم تعرف سبب عرضها على طبيب بعد 86 يوماً، فلعل النظام يحتاج إلى بعض الأحياء من أجل المبادلات. قالت بإن نعمة الأمراض الجلدية الكثيرة، من جرب وقوباء وأمثالها، التي أصيبت بها، وَقَتها من التحرش وصانتها من الاغتصاب، وحمتها من التعذيب بالسوط أو الدولاب، لأنها طرق في التعذيب تقتضي اللمس. حوّلت بعد تحسن حالتها الصحية إلى المدينة الرياضية في فرع اللاذقية، وذكرت أنها لم تحوّل إلى الشام مباشرة، فلا بد من المرور “بجنزير” الفروع الحديدي، ثم أعيدت إلى السياسية في طرطوس حتى استوفت 14 فرعاً، وثلاثة سجون مركزية منعاً من التسرب في ثقوب محتملة، في سور الصين العظيم في سوريا الأسد الفاسدة. الضباط أمثال بشار يرقّون ويصعّدون في الرتب العسكرية، أما السجناء، فيخضعون إلى ترتيب فولاذي صارم في سلسلة المعتقلات والسجون.
بدأ التعذيب في الفرقة الرابعة في الشام، بعد أن علموا أنها من مضايا، مكان الإقامة والطائفة، من أكبر القرائن الجرمية في سوريا الأسد، سيماء الجرم السورية في الهوية وليس في الوجه. إحدى طرق التعذيب التي ذاقت وبالها هي جدل كيس نايلون حبلاً في البلعوم، ثم نزعه فجأة مع الدماء ومزع اللحم. إحدى لكمات التعذيب أدّت إلى كسر حنكها، وما لبثت رقبتها أن كسرت بالكرسي الألماني.
في فرع فلسطين، وجدت نفسها في الفردوس الأعلى، ليس لأن التعذيب أقل نكالاً من فرع طرطوس، بل لرؤيتها مشاهد مروّعة، هوّنت عليها مصيبتها، منها أن الطبيب الآسي، فراس، كان يسعف حوريات الشام، القوارير، المعتقلات المغشيات عليهن من التعذيب، أو من الأدوية التالفة السامة، بلفح وجوههن بأزهار النار. ذكرت منار جابر أنها كانت تمشي مرفوعة الهامة، بعد كسر رقبتها حتى ظنّ السجناء أنها ضابطة، لشدة اعتدادها بنفسها، فيقفن لها عند مرورها خوفاً وهيبةً، بعد أن شفيت، قالت هذه العبارة التي لا يقولها إلا شامان، بلغ رتبة من الإشراق والعرفان، والشامان لا يبلغ رتبة العّراف إلا بعد مرض وشدّة، ليس لهما مثيل، بعد ابتسامة ساحرة: إنها أعفيت من رتبة الجنرال مرفوع الهامة، وعادت إلى زميلاتها في الزنازين.
تتعجب منار من محاكم النظام التي تصفها بالتفاهة، فعندما مثلتْ لدى القاضي، ظنت أنها ستتهم بإشعال ثورة تونس، وقتل معمر ليبيا القذافي، لكن القاضي طلب منها صراحة رشوةً مقدارها خمسين ألفاً، مما تعدّون، ووثيقة تفيد بطلاقها من زوجها المنشق بتاريخ قبل تاريخ انشقاقه. المسألة سهلة.
قالت: إن أكثر المشاهد ألماً في نفسها، غير مشاهد اغتصاب الأطفال، هو قتل المعتقلة “هناء خالد” التي جاء خبر براءتها، وكلهن بريئات، في المساء الذي قتلت فيه. حاولت منار جابر الانتحار، ونجت، ووصلت إلى تركيا، وهي ما تزال تتعالج من أمراضها التي أصيبت بها، في العظام والجلد والروح، وتبتسم بفكّها المكسور، وتقول: إنها لن تنتحر مرة ثانية. لقد بلغت رتبة من المعرفة. قالت: إن سوريا معدومة، ميتة، وإنّ شعبها بلا كرامة، وأخفت دموعها الحجر، على إهمالها من أهلها وشعبها والمنظمات الحقوقية، قالت: إن النظام ميت، والرئيس ميت، ولو حكم فترة طالت أو قصرت.
في الغرب تطوّب الكنيسة أبطالها وضحايا الحق قديسين، أما نحن فنحتاج إلى سنة ضوئية، عدد أيامها مليون يوم ضوئي، لنجعل كل أيامها أعياداً لأمهات وبنات وأطفال قضوا تحت التعذيب.
لو أعددنا موسوعة غينس سورية لما كان فيها سوى أبطال قضوا أو عاشوا تحت التعذيب.
لو تعلم منار جابر أنها اسم على مسمى.
لو يعلم العالم أن كل امرأة سورية اعتقلت هي عرافٌ شامان: شامٌ بسطت ملائكة الرحمن أجنحتها عليه، وشامٌ بين أنياب الشيطان.