إنها نوبته الأولى، كمَنَ خلف النافذة في العلبة الأسمنتية، يراقب بعينين؛ عين ترصد براكين الدخان التي تشعلها طائرات العدو من بعيد في البلدة المنكوبة، وعين تشهد على معركة ذات المناقير بين العصافير المتحاربة.
أية أقدار ساقت هذه العصافير إلى هذه البرية الصلعاء سوى من نباتات إبرية شعثاء بين الحجارة والصخور؟ العصافير كائنات أهلية وسكان شجر، فمن أين سقطت إلى هذه الفلاة؟ هل فرّت من القصف؟ هل للعصافير حاسة شمٍّ مثل الكلاب أم أنّ بصرها حديد مثل بصر الجوارح؟ سمع مرة في الإذاعة أن اسم العصفور مكوّن من فعلين؛ عصى وفرّ. قال المذيع: “فريدوم” اللاتينية من فرَّ العربية.
جزم أنّ زميله الذي لم يعرف اسمه، هرب وتركه وحيداً في مواجهة العدو، زعم زميله أنه سيقضي حاجة وغاب طويلاً. ارتقى التلة ليتفقّده فلم يجده، أين اختفى؟ هل نبتت له أجنحة وطار! عصى وفرَّ، شكّل فراراً بالتعبير العسكري. الفرار تشكيل عسكري حتى لو كان فردياً، لمَ فرَّ؟ وكيف سيصل إلى أهله من غير وثيقة الإجازة، والطرقات كلها حواجز وجنود، والإجازات ممنوعة بسبب المؤامرة الكونية. تفقد الغرفة، لم يكن فيها سوى كيس خبز وعلبة حلاوة وجالون ماء لن يكفي سوى ليومين، ورزم من القيود البلاستكية لاعتقال المشبوهين والمطلوبين، ودفتر فيه أسماء العائلات المشبوهة المتعاونة مع العدو مرقونة حسب ترتيب الأحرف الأبجدية.
أبرز سيادة الملازم لهم قبل فرزهم مثنى مثنى إلى المخافر والمحارس والحواجز أمراً عسكرياً يجيز القتل على الشبهة، مرّر الملازم قرار إجازة قتل المشبوهين أمام أبصارهم، واحداً واحداً، وعليه أختام الدولة، الوطن في خطر، هناك مدن وبلدات متآمرة وكلها مشبوهة، اعتقلوا واقتلوا، أنتم حماة الديار. لم يطلب أحد من الجنود صورة من الوثيقة التي حرص الملازم على الاحتفاظ بها وكأنها سرٌّ قومي مكين.
غريب أمر هذا الحاجز الذي لا يطرقه طارق. وكان قد منّى نفسه بالاستئناس بالمدنيين، والجميلات المسافرات، بعد أن جفَّ من البعد في النقطة الحدودية، وكانت أوامرهم تقضي بعدم الرد على العدو مهما حدث، لكن ها هي الأوامر تغيّرت مع العدو الجديد، وتأمر بالقتل داخل المدن، وكان ينوي أن يعرض سلطانه على المدنيين، ويلقي الرعب في قلوب الناس، ويتباهى ببندقيته، وأن يفتش حقائبهم ويروعهم على جمر الخوف، لكن لم يطرق الحاجز أحد، وهو لا يدرك تفسيراً للأمر. لا بدَّ أن القيادة قد أخطأت باتخاذ هذه النقطة للمراقبة مع أن الطريق معبد! لم يعبر أحد منذ الصباح، ليس سوى عصافير لا يعرف من أين جاءت؟
تلوح من بعيد بلدة بمآذنها العالية الشاخصة، لا يعرف اسمها، ويسمع أصوات قذائف بعيدة وانفجارات، يبدو أنَّ العدو يقصف، أين المضادات الأرضية والمقاتلات الجوية، كيف يسكت جيشنا الباسل على عدوان يدمّر القرى ويقصف المدن ولا يرد؟ أخذ سيادة الملازم هواتف الجنود، وأخبرهم أنها أمانات في الصون والحفظ الى حين انتهاء المعركة خوفاً عليهم من بلبلة يدسّها العدو عليهم.
أحسَّ بوحشة شديدة.
تناول كيس الخبز ووضع فيه قطعة من الحلاوة وازدرد لقمة بغير شهية، وتابع نزال العصافير التي كانت تتخاطف قطعة الخبز اليابسة على الصخرة، ولا يقدر عليها سوى نقار خشب، تنازعت عليها محاولة كسرها. خرج من الغرفة وهشّم قطعة الخبز بجزمته العسكرية وندم، رفع كتلة الخبز معتذراً لربه وقبّلها، وغاب في الغرفة، سرعان ما تنادت العصافير، فاستأنس بها، كمَنَ وراء بندقيته، وهو يزدرد الحلاوة الملفوفة بالخبز من غير شهية. لم يذق طعاماً منذ يومين سوى الخبز والحلاوة.
الفلاة موحشة، وأصوات الانفجارات والقذائف البعيدة في سماء البلدة تعلو بين الحين والآخر، استردّ نبرة الملازم وهو يخطب فيهم، ويحثّهم على الدفاع عن الوطن، كانت نبرته غريبة على غير عهدها، فيها حنان ورقّة، وإنسانية مفقودة. غابت الشتائم، رقّ قلبه للملازم، كان يقسم من قبل أنه لو ظفر به يوماً لقتله، حتى إنه كاد أن يقبّل يده على هذا الودّ الطارئ، بل إنه تعجّبَ من مسحه على أكتاف الجند واحداً واحداً، وهو يذكّر بواجب حماية الوطن. أحسَّ أنّ الوطن مسؤول منه، وأنّ السيد الرئيس بعد انتهاء النوبة سيقابله ويمنحه وساماً من كثرة ذكر الضابط لإسم السيد الرئيس الذي بدا في خطابه إلهاً يراقبهم ويبسط عليهم ظله. لكن أين اختفى زميله.. كأن الأرض ابتلعته، أيكون متعاوناً مع العدو؟ هل يمكن أن يتعاون أحد مع العدو فيخسر أهله ودينه وعشيرته؟
تكاثرت العصافير، كان بعضها يخطف كسرة من كتلة الخبز ويهرب بها، ثم يعود مع عصافير جديدة. اقتحم عصفور أدهم، منفوش الريش، صفوف العصافير وهو يحمحم ويزأر، استطاع بلوغ كتلة الخبز القاسية، وانتزع منها لقمة وقدّمها لعصفورة أقل حجماً منه، وديعة المنظر، وقفت على صخرة أخرى، تثبُ على استحياء، تُقدّم خطوة وتؤخر أخرى، يمنعها شرفها من الاختلاط بالعصافير المتصارعة. أصوات القذائف والانفجارات وموجات دخان تعلو القرية البعيدة مثل زوابع. طائرة قاذفة أغارت فوق القرية وقصفت، فاندلع بركان من الدخان والغبار. العصفور العنترة عاد يكرُّ على الصفوف حتى انتزع كسرة أخرى وفرَّ بها، قصد العصفورة وزقّها في منقارها، وكرَّ من جديد غير مذمم.
سدّد الجندي بندقيته إلى العصفور العنترة، عاينه طويلاً من خلال إبرة التسديد، حتى رأى أجله لامعاً في قوس الموت، تخيّر بينهما، غيّر رأيه، وسدّدها إلى العصفورة الأميرة، بينما كان صاحبها العنترة يصول ويجول بين الكتائب، ينقر على اليمين وعلى الشمال. اعتكر الغبار، وعلا وسدّ الأقطار، أمسى العنترة يرتجز وينشد الأشعار:
وَلَقَد ذَكَرتُكِ والرِّماحُ نَواهِلٌ – مِنّي وبِيضُ الهِندِ تَقطُرُ مِن دَمي
تذكّر حال جندي رآه في فيلم كاوبوي، وحيد، ومعزول مثله، ماذا كان اسم الفيلم؟ الرقص مع الذئاب، قال لنفسه: ذئابي عصافير، ضغط على الزناد، فتعالى صوت الطلقة مدوياً، اقشعّر لها جلد المكان، فنبتت أشواكٌ جديدة، وتطايرت قنبلةٌ من الريش، بقي بعضه معلقاً في الهواء الصلب فترة، وخرست زقزقة العصافير التي فرّت دفعة واحدة، وخيّم الصمت على الصخرة التي جثمت مذعورة.
خرج من مكمنه وقصد الصخرة التي سقط بعض أضلاعها من لطمة الطلقة، كان لحم الأميرة قد انعجن بالريش والتصق بها، وكان ريش لا يزال يطير ويحوم في الفضاء ذكرى من الطلقة التي خرقت لحم الوجود. رفع يده إلى ريشة طائرة، تهادت، تتبعها براحة يده حتى استقرت فوقها، كانت ناعمة، وما تزال دافئة، وتنبض ببقية من روح الأميرة العصفورة.
أسرتْه اللعبة، أحضر كتلة خبز يابسة ونصبها فوق الصخرة، استخفى، عاد العصفور العنترة العاشق يبحث عن أميرته العبلاء، ويتفقدها، غير آبه بالخبز، كان يفتش بين الحجارة والصخور، وينادي، من بعيد كانت الطائرة تقصف البلدة وتحرقها، حوّمت ريشة من ريش الأميرة ما زالت في الفضاء. ريشة صغيرة، خفيفة، من الخوافي، معلقة في الهواء الثخين، طوّحها النسيم، إلى الغرفة مسبقة الصنع التي كان في سقفها حلقات معدنية للحمل، فاستقرت على فم البندقية الغادرة. نفخ عليها الجندي نفخة خفيفة، وسدّد طلقتها الثانية إلى صدر العصفور العنترة، وأطلق النار، فانفجر الريش، دوى صوت قصف الطائرة، رأى مئذنة باسقة تسقط، تبعتها عاصفة من الغبار والدخان، مدّ يده لريشة ناعمة من العنترة العصفور، كانت تحوم بنفس من أنفاس الوجود، استقرت على كفه، ملتصقة بيده الدبقة.
لعقَ الجندي يده من أثر الحلاوة، وابتلع الريشة الطرية الملطخة بقطرة دم حمراء.
عن صحيفة المدن الإلكترونية